خيال مطير
29-02-2016, 08:55 PM
مقاربات بين الشعبي والفصيح
مساكين أهل الع!شق!
http://s.alriyadh.com/2012/05/07/img/348737769281.jpg
العشق العنيف يصيب أصحابه بالضعف والمسكنة أمام الحبيب.ومع أن العربي -بشموخه المعروف - أكره مالديه الذل للمحبوبة ..فللحبيب أن يتدلل وعلى المحب أن يتذلل ..
يقول أبو الطيب المتنبي :
تذلّل لها واخضع على القُرب والنوى
فما عاشقٌ من لايذلّ ويخضعُ
ولآخر:
قالوا عهدناك ذا عزّ فقلت لهم
لا يعجب الناس من ذل المحبينا
لا تنكروا ذلة العشاق إنهم
مستعبدون برق الحب راضونا
وقال أعرابي:
اخضع وذل لمن تحب فليس في
شرع الهوى أنفٌ يُشال ويُعقد
وقال أبو فراس الحمداني:
لقد ضلّ من تحوي هواه فريدةٌ
وقد ذلّ من تقضي عليه كِعاب
وسئلت أعرابية عن الهوى -الحب- فقالت:
إن الهوى هو الهوَان نُقِّص اسمه
فإذا هويت فقد لقيت هوانا
وإذا هويت فقد تعبِّدك الهوى
فاخضع لإلفك كائناً من كانا
ومن الشعر السهل السائر في وصف حالة العاشق وما يلقى من معاناة :
فما في الأرض أشقى من محب
وإن وجد الهوى حلو المذاق
تراه باكياً في كل حين
مخافة فراقة أو لاشتياق
فيبكي إن نأوا شوقاً اليهم
ويبكي إن دنوا حذر الفراق
فتسخن عينه عند الفراق
وتسخن عينه عند التلاقي
ومثله :
قالوا جننت بمن تهوى فقلت لهم
العشق أعظم مما بالمجانين
العشق لا يستفيق الدهر صاحبه
وإنما يصرع المجنون فى الحين
وقريب منه قول الشاعر :
مررت بقبر دارس وسط روضة
عليه من النعمان سبع شقائق
فقلت لمن ذا القبر؟ جاوبني الثرى
تأدب فهذا القبر قبر مفارق
فقلت رعاك الله يا ميت الجوى
واسكنك الفردوس أعلى الشواهق
مساكين أهل العشق حتى قبورهم
عليها تراب الذل بين الخلائق
فإن استطعت زرعت حولك روضة
وأسقيتها من دمعي المتدافق
وقصة الانسان مع الحب هي قصته مع الشوق الى الجمال .. فالمحب يرى محبوبه في منتهى الجمال , وإذ يصاب العاشق بالحرمان من محبوبه - الذي يراه الأجمل من كل الناس - فإنه يصاب بالظمأ إلى الجمال ..
وهذا الظمأ يشبه الى حد كبير الظمأ إلى الماء .. غير أن ظمأ العشق يقتل ببطء .. يعذب العاشق
يقول الدجميا -رحمه الله- وهو ممن قتلهم الحب :
ياجر قلبي جر لدن الغصوني
وغصون سدر جرها السيل جرى
وأهله من أول بالورق يورقوني
على غدير تحته الماء يقرى
على الذي مشيه تخط بهوني
والعصر من بين الفريقين مرى
لا والله اللي بالهوى هوجروني
هجر به الحيلات عيت تسرى
لا مبعد عنهم و لا قربوني
ولا عايف منهم ولاني مورى
واكثر عذاب القلب يوم سنوحوني
بيح بصبري لو بغيت اتدرى
لا ضاق صدري قمت اباري الظعوني
كني غرير بالدلوهة مضرى
وقبلي عليه اشفق وتبكي عيوني
والحال من ود الحبيب تبرى
ان مت فى خدّ بعيد انقلوني
على هدي الزمل مشيه تدرى
ان مت في دافي حشاه ادفنوني
فى مستكن الروح مهوب برى
ياليتهم بالحب ما ولعوني
كان ابعدوا عني بخير وشرى
والا انهم يوم انهم ولعوني
خلوني اقضي حاجتي واتدرى
وياليتهم فى الدرب ما واجهوني
وياليتهم ما زادوا الحر حرى
وياليتهم عن حاجتي سايلوني
يوم اني اقعد عندهم واتحرى
وياليتهم من زادهم اطعموني
انا على زاد اليتيم اتجرى
الخد برق في علو المزوني
تقول براق من الصيف سرى
وقفت عنده شايحات عيوني
كني غرير با للهاوي مضرى
وفي قصص العرب ، وكثير من كتب الأدب القديمة ، خاصة (الأغاني) كثير من القصص والروايات التي يختلط فيها الواقع بالخيال، والاسطورة بالحقيقة، بحيث يصح أن يعتبر (مأثوراً شعبياً) ومنه ماورد مرويا عن (الاصمعي) الذي تُسند إليه الكثير من تلك الحكايات الشعبية .. قال:
بينما كنت اسير فى البادية مررت بحجر مكتوب عليه هذا البيت
أيا معشر العشاق بالله خبروا
اذا حل عشق بالفتى ماذا يصنع
فكتبت تحت هذا البيت:-
يداري هواه ثم يكتم سره.
ويخشع فى كل الامور ويخضع
وحين عدت في اليوم التالي وجدت هذا البيت مكتوباً:-
وكيف يداري والهوى قاتل الفتى
وفي كل يوم قلبه يتقطع
فكتبت تحته:-
اذا لم يجد صبراً لكتمان سره.
.فليس له سوى الموت ينفع
فعدت في اليوم التالى فوجدت شاباً ملقى تحت هذا الحجر ميتا
ومكتوب تحته هذان البيتان:-
سمعنا اطعنا ثم متنا
.فبلغوا سلامي لكل من كان بالوصل يمنع
هنيئاً لارباب النعيم نعيمهم
وللعاشق المسكين ما يتجرع
وكان هذا الحجر فى الصحراء الموحشة وحيداً بعيداً عن الناس
فعرفت ان هذ الفتى كان يحب ولكنه يخاف ان يصارح محبوبته
وعندما صارحها نهرته فقتل نفسه
فقال الاصمعي
مساكين اهل العشق حتى قبورهم
عليها تراب الذل بين المقابر
ومن الشعر العذب الجميل في وصف ضعف العاشقين قول الأمير بدر بن عبدالمحسن:
شعر موج .. وقمر خد ..
دفا روح .. وطغى قد ..
وراعي الهوى مسكين ..
زهى الكحل .. في الحاجر الفتان
وسرى الليل .. تو الفجر ما بان
وراعي الهوى مسكين
كما الشمس .. يجهر سنا نوره
ما اقدر أناظر .. والعين مكسورة
وراعي الهوى مسكين ..
ثغر ورد .. وردة شكت ورده
من دونها الشوق .. والرمح والقرده
وراعي الهوى مسكين ..
كان هذا العشق العارم -وأحياناً القاتل- يجوس صحراء العرب قديماً ، ويعيش بين القبائل ، وخاصة قبيلة (عذرة) التي نسب لها الحب العذري ، والتي منها مجنون ليلى -أشهر مساكين الحب على الاطلاق- وقيس بن ذريح، وجميل بثينة، وعروة بن حزام، والمجنون (قيس بن الملوح)، وتوبة بن حمير، ومن شعرائنا الشعبيين (الدجيما) و (ابن عمار) رحم الله الجميع ..
أما في هذا الزمان فالعشق القاتل نادر فقد صار الحب وردة قريبة الذبول وشمعة تنطفئ بنفخة وشمساً سريعة الأفول ..
والعشق في هذا العصر لم يَمُتء.. ولا يمكن أن يموت طالما كان في صدر الإنسان هذا القلب الخفاق.. وفي وجهه عينان يسحرهما الجمال.. وفي خياله تلك الرؤى والأشواق...
يُرءوَى أن رجلاً مفلساً قال شامتاً حين انخفضت أسعار الذهب إلى الحضيص:
- مساكين أهل الذهب!
فقال له أحدهم:
- المسكين الذي ما عنده ذهب.. مثلك!
وربما ينطبق هذا - أيضاً - على العشاق والخالين.. فالعشاق - وبالذات من طرف واحد والذين حالت الظروف بينهم وبين ما يشتهون وهو وصال الحبيب - يتألمون فعلاً ولكنهم لا يعرفون الملل ولا الخمول.. حياتهم ملأى.. فيها إثارة وشوق ورجاء ومسكنة فعلاً! وهذه هي المصيبة.. المسكنة!.. فمن أضعف الأشياء أن يكون الإنسان "مسكيناً" لغير الله عز وجل..
كما أن في حياة العاشقين - مع ما فيها من حرارة وإثارة - خضوع للحبيب، ولعل هذا جزءا من المسكنة، فالعشق يجعلهم يخضعون للحبيب إلى حد التذلل أحياناً!
سِنّة العشاقِ واحدةٌ
فإذا أحببتَ فاستكِنِ!
فقد جرت أخلاق العشاق في القديم والحديث - عدا العاشق المستكبر - على التذلل للمحبوب والتقرُّب الوديع إليه بلا حساسية ولا استكبار، ولم يروا في ذلك خدشاً للكرامة ولا نقصاً في الرجولة، لأن ذلك من اداب العشق، ومن حقوق الحبيب، ومن طبيعة العاشقين في كل زمان ومكان:
مساكينُ أهلُ العشقِ حتى قبورهم
عليها تراب الذل بين المقابِرِ
كما يقول العاشق القديم..
أما الأعراب - وهم أهل أنفة وكرامة - فإنهم يستثنون من تلك الأنفة العشق والعشاق.. فيقولون:
@ "للحبيب أن يتدلّل.. وعلى المحب أن يتذلل"!
ويقول مَنء جرب منهم:
إن الهوى هو الهوانُ نُقصَ اسمُهُ
فإذا هَوَيءتَ فقد لَقيتَ هوانا
وإذا هَوَيتَ فقد تعبَّدَكَ الهوى
فاخضع لإلفك كائناً من كانا
والعاشقون - في العادة - راضون بذلهم للحبيب:
قالوا عهدناكَ ذا عِزّ فقلتُ لهم
لا يعجب الناس من ذل المحبينا
لا تنكروا ذلة العشاق إنَّهُمُ
مستعبدون برقِّ الحب راضُونا
ويقول الآخر:
اخضع وذل لمن تحب فليس في
شرع الهوى أنفٌ يُشَال ويُعءقَدُ
ويقول محمد بن داود الأصبهاني الذي ألف كتاباً كبيراَ(1) عن العشق: (التذلل للحبيب من شيم الأديب).
أما ابن حزم الظاهري صاحب كتاب (طوق الحمامة)فيقول : "حضرتُ مقام المعتذرِين بين أيدي السلاطين، ومواقف المتهمين بعظيم الذنوب مع المتمردين الطاغين، فما رأيت أذل من موقف حبّ هيمان بين يدي محبوبٍ غضبان!"
وهشام بن الحكيم - وكان من أكثر الناس أنفةً - يقول:
(في الحب يصبح المحب عبداً مملوكاً ويخضع لمحبوبه).
حتي المتنبي الذي لا يكاد يرى أحداً من الناس غطرسةً واستكباراً، يقول:
تذلّل واخضع على القرب والنوى
فما عاشقٌ من لا يذلُّ ويخضع!
ويقول:
أَرَقٌ على أرقٍ ومثليَ يأءرَقُ
وجوىً يزيد وعَبءرَةٌ تترقرقُ
جَهءدُ الصبابةِ أن تكونَ كما أرى
عينٌ مُسَهَّدةُ وقلبٌ يخفِقُ
ما لاحَ برقٌ أو ترنم طائرٌ
إلا انثنيتُ ولي فؤادٌ شَيِّقُ
جرَّبتُ مِن نار الهوى ما تنطفي
نارُ الغَضَى وتكِلُّ عما تُحءرِقُ
وعذلتُ أهلَ العشقِ حتى ذُقءتُهُ
فعجِبتُ كيف يموتُ مَنء لا يعشقُ!
بل إن المأمون يقول - وهو ملك الدنيا في زمانه -:
ملك الثلاث الآنساتُ عناني
وحللن من قلبي بكل مكانِ
مالي تطاوعني البريِّةُ كُلُّها
وأُطيعهن وهُنّ في عصيانِي
ما ذاك إلاَّ أنَّ سلطان الهوى
وبِهِ قوينَ أَعزُّ مِن سلطاني!
@ @ @
ويصح أن يقال عنِ العاشق إنه دائماً (متوتر) و(متوفز) و(يعيش على أعصابه) و(كأنه ليس على بعضه) والعلماء يقولون إن (التوتر) يقصر العمر.. والاعمار بيد الله عز وجل.. فإن صدق هذا فإن العشق يساعد في قصف الأعمار.. ناهيك عمن قتلهم العشق فعلاً وهم شباب أو أصابهم بجنون مطبق..
@ @ @
وقد عبر شاعر عاشق عما يصيب حزب العشاق من توتر دائم وشقاء وترقب وعذاب بشكل جميل ومعبر فقال:
وما في الأرضِ أشقى مِن مُحِبٍ
وإنء وجد الهوى عَذبَ المذاقِ
تراهُ باكياً في كُلِّ وقتٍ
مخافةَ فُرءقَةٍ أو لاشتياقِ
فيبكي إن نأوا شوقاً إليهم
ويبكي إن دنوا خوفَ الفراقِ
فتسخن عينُهُ عند التنائي
وتَسءخُنُ عينُهُ عندَ التلاقي
وهذا شعر جميل ومُعَبِّر ومُنَسّق ولكن فيه مبالغة.. وفيه نظرة للموضوع من جهة واحدة.. وهي جهة الشقاء والعذاب اللذين يجدهما العشاق.. ولو أن الشاعر نظر إلى الجهة الأخرى .. وهي جهة السرور والسعادة والنعيم الذي يعيش فيه العشاق لوصف ذلك بنفس النسق ومن نافذة المبالغة والنظرة الأحادية نفسها.. (فما في الأرض أسعد من محب!.. وإن أضناه الهوى أحياناً.. لأنه يستمتع بشكل خيالي في الوصال.. ويشتاق بشكل جميل في الفراق.. فحياته دائماً حارة.. نابضة.. ملأى ومدهوشة.. وموعودة.. هو دائماً إما في سعادة واما على وعد مع السعادة..) نستطيع أن ننظر للموضوع بهذه العين.. ولكن النظرة الموضوعية.. والشاملة.. ترى أن في العشق لذةً وألماً.. سعادة وشقاء.. وأنه - أي العشق - حاد.. حار.. ومتطرف.. فسعادته قوية.. حارقة.. تطرد النوم.. وشقاؤه حار.. مؤلم.. يُمَزِّق الأعصاب.. وتلك هي حياتنا الدنيا.. وذلك هو قدرنا نحن البشر.. لا يوجد سعادة كاملة ولا يمكن.. الا في جنة الله لمن آمن وعمل صالحاً وتغمده الله - عز وجل - منه برحمة وفضل.. أما في هذه الدنيا فلا توجد سعادة كاملة.. ولا قريبة من الكاملة.. لا في العشق ولا في غير العشق.. حتى لو سارت الأحوال كما يتمنى العاشق.. - وما أقل هذا.. هيهات.. تجري الرياح.. - لو سارت الأمور كما يريد العاشق المحبور ونعم بالوصال الدائم من المحبوب وقفل عليه باب بيته بالزواج والعشق متبادل.. وتلك أرقى الصور.. فإن هناك داءً آخر سوف يمرض تلك السعادة.. هو داء الملل والعادة.. يذهب العشق مع الوصال.. ويبقى الملل والبلادة والخمول والروتين القبيح.. دوام الحال من المحال.. والعشق عاطفة صارخة لا يمكن أن تستمر بهذا الصراخ المخيف.. الصراخ إما أن يقتل.. أو يخفت حتى يسكت سلوى .. أو سد فم بتخمة.. أو يأساً واليأس أحد الراحتين..
@ @ @
والعشق في هذا العصر لم يَمُتء.. ولا يمكن أن يموت طالما كان في صدر الإنسان هذا القلب الخفاق.. وفي وجهه عينان يسحرهما الجمال.. وفي خياله تلك الرؤى والأشواق.. وفي وجدانه ذلك الظمأ والانبهار.. لا يمكن أن يموت العشق.. لا في عصرنا هذا.. ولا في غيره من العصور.. ولكنه قد يخف ويخفت قليلاً.. مع عصر السرعة والاضطراب، ومع ما هو أخطر، وهو (تبذل المرأة) وتبرجها.. فالعشق يقوم على (السر) أي (السر الخفي في المحبوب) والمرأة المتبرجة مفضوحة.. لا سر فيها.. ولا غموض.. وبالتالي لا توجد فتنة.. كل ما هو مبذول.. مملول.. وكل ما هو ممنوع.. متبوع.. والعشق رجل.. وامرأة.. وحرمان..
@ @ @
ورغم هذا كله يبقى العشق موجوداً.. ولكنه قد يُغيِّر ملابسه بما يتلاءم مع طبيعة العصر.. وقد يكون خفيفاً سريع التغيير!.
هامش
http://www.enjaztech.com/vb/uploadcenter/uploads/02-2013/PIC-249-1360371783.jpg
الحب شعاع سحري يعذب ويطرب في آن..
عذاب الحب معجون بلذته.. وشقاؤه ممزوج مع سعادته..
الحب هو الموجز المختصر لطبيعة الإنسان وهو عنوان قصته مع السعادة! فالسعادة الخالصة شوق الإنسان منذ الأزل.. ولكنها غير موجودة! والحب شوق الإنسان إلى الخلاص من الشقاء، وتوقه إلى الاستمتاع بالجمال، وهذا الايتم إلا بخطى تسير حافية على جسر العذاب حيث يسكن الحبيب في قصر الهوى.. ولابد من التذلل للحبيب، والعجيب أنه تذلل لذيذ، وأن أشد الرجال استكباراً إذا وقع في الهوى حقاً استمرأ التذلل للحبيب ووجد فيه لذة!! وكلما تدلل الحبيب وهو يتذلل له ازدادت نيران غرامه اضطراماً وزادت خفقات قلبه اضطراباً وهو يجد في هذا لذة قصوى ممزوجة مع مرارة كبرى: لذة الشوق والشوق للوصال، ومرارة التمنع والحرمان، وما العشق إلا رجل وامرأة وحرمان، وما السعادة ذاتها إلا نيل بعد حرمان..
http://s.alriyadh.com/2006/07/31/img/267034.jpg
وقدر العاشقين على مر الأيام والسنين أنه الحبيب أن يتدلل. وعلى المحب أن يتذلل، وهذا لا يشمل الرجال فقط، يشمل الرجل والمرأة، في الحب لا تفرقة و (ليس في الحب يا أمي أرحميني) كما يقول الشاعر العاشق.. المرأة أقدر على التدلل من الرجال ودلالها يزيدها جمالاً، ويزيد عاشقها هياماً، ولكن الرجل قد «يغلي» و «يتمنع» وأحب شيء إلى الإنسان ما منعا، خاصة المرأة إذا كانت عاشقة، فالمرأة بطبعها تهوى ما منعت عنه ومنع عنها:
إن النساء متى ينهين عن خلق فإنه واجب لا بد مفعول!
فكيف حين تنهي عمن تحب وتهوى؟!
والمرأة أشد تطرفاً واندفاعاً في الحب
والكره، يقول المتنبي:
إذا غدرت حسناء وفت بعهدها
فمن عهدها أن لا يدوم لها عهد!
وإن عشقت كانت أشد صبابةً
وإن فركت فاذهب فما فركها قصد!
وإن حقدت لم يبق في قلبها رضىً
وإن رضيت لم يبق في قلبها حقد!
كذلك أخلاق النساء وربما
يضل بها الهادي ويخفى بها الرشد!
المرأة إذن لغز.. ومتناقضة.. ومتطرفة.. ولكن لا شيء يجعل لغزها ويفك متناقضاتها ويبعد بتطرفها إلى أبعد مدى كالعشق..
لا يفك تناقضها فقط بل يفك أوصالها ويفك عقدها ويصيبها بالجنون والاضطراب ويجعل كبرياءها تذهب في خبر كان..!
والمرأة قلما تبدي تذللها لمن تهوى علناً، وإن كانت قد ركعت من ذل الحب، وهو ذل فيه لذة..
فالمرأة تريد.. وتعودت.. أن تكون مطلوبةً لا طالبة.. وأن تتمنع وهي راغبة..
ولكنها إذا عشقت حقاً مزق العشق ما أرادت.. وما اعتادت.. كأنما ركبها «جني» لا يترك فيها عقلاً.. ولاإرادة..
والحب العنيف.. الصادق.. يشبه «الجني» يجول في دماء العاشق ويجوس خلال مشاعره وهواجسه.. رجلاً كان.. أو امرأة.. الجنون يصيب المرأة والرجل.. والحب مثله!
والتذلل والدلال يزيد الرجل هياماً بمن يعشق.
لأن التدلل والدلال يزيد المحبوب جمالاً
على ما فيه من جمال.. ولأن الدلال يرمز للإغراء والإقبال.. وبعض الرجال أساس عشقه لمحبوبه ما يبديه من تدلل أمامه ودلال عليه.. الدلال الذي يوحي بالإقبال ويحتجز بالعفاف.. قال جميل.
ولست على بذل الصفاء هويتها
ولكن سبتني بالدلال وبالبخل!
ويذكر (ابن سبيل) أنه كلما حاول نسيان الهوى ذكره به لفتات الحبيب (وهي من الدلال) فيتركز الهوى أكثر:
وإلى توسع خاطري واسفهليت
وتركت هويات القدم وشهواته
إما سمعت أو شفت والاتحريت
فتقٍ بقلبي فزته والتفاته
قالوا جهلت وقلت بالجهل اقريت
الجاهل اللي ما تذكر طراته
يلومني خبل هروجه سفاريت
ماذاق طربات الهوى واسفهاته!!
يحاول أن ينسى الحبيب ويرتاح باله من عذاب الحب ولذته فهو لا يريد لذة ممزوجة بالعذاب ولكنه لا يستطيع تحقيق ما يريد، يعيده إلى حب الحبيب (صوته) و (شوفته) و (لفتاته) ويلومونه يقولون: جاهل أو يقول: أنا أّشهد أنني جاهل.. أقر بذلك قالوا جهلت وقلت بالجهل اقريت!! أي أقررت طائعاً مختاراً!.. ولكن من الذي يلوم؟.. إنه الجاهل بالحب الذي لم يذق لذته ولم يعرف صبوته!.. اللائم جاهل بالهوى.. خبل!!.. كلامه فاضي! كلامه مردود عليه لأنه لم يذق الحب أصلاً ولم يعرفه وكيف يحكم على ما لا يعرف:
لا يلومني خبلٍ
هروجه سفاريت، مذاق طربات
الهوى واسفهاته!!
وكل بعقله راض: الخبل راض والعاشق راض
ولهذا يقول ابن سبيل أيضاً:
يا ناس خلو كل وادٍ ومجراه
قلتو كثير وقولكم ما لقيته! معه حق! فمن يسبه دل الحبيب ودلاله يستعذب فيه العذاب الذي يشفق عليه منه لائموه واهله:
هلي يلو موني ولا يدرون
والنار تحرق رجل واطيها!
كما يقول ابن لعبون..
ونار الحبيب فيها لذة وإثارة للحس والخيال.. لهذا يواصل:
«أربع بناقر في يد المزيون
توه ضحى العيد شاريها
عمره ثمان مع عشر مضمون
مشي الحبيب الراعبي فيها»
ومشي الحمام الراعبي فيه رشاقة وأناقة.. ويتلفت وهو يمشي.. وحبيبة ابن لعبون تمشي في نضارة شبابها يغنج ودلال وهو يرى يتمتع ويتعذب معا..
والدل والدلال تمنح الأمل يقول الشريف الرضي:
لئن آيسني الصد لقد أطمعني الدل
ولذلك يظل العاشق معلقاً بأهداب المعشوق كمسجون لا يريد الخروج
يقول ديك الجن:
يا كثير الدل والغنج، لك سلطان على المهج
لا أتاح اللّه لي فرجاً يوم أدعو منك بالفرج!
وقد أوجز شهاب الدين الاعزازي الذل المرغوب للحبيب الذي يتدلل:
خطرات النسيم تجرح خديه
ولمس الحرير يدمي بنانه
قال لي والدلال يعطف منه
قامة كالقضيب ذات ليانه
هل عرفت الهوى؟ قلت وهل
أنكر دعواه؟ قال فاحمل هوانه!
والحبيب الذي يتقن الدل والدلال يخطف القلب ويلعب بالعقل:
لي حبيب قد لج في الهجر جدا
وأعاد الصدود منه وأبدا
ذو فنون يريك في كل يوم
خلقاً من جفائه مستجدا
يتأبي منعماً وينعم إسعا
فاً ويدنو وصلاً ويبعد صدا
أتراني مستبدلاً بك ما عشت
بديلاً أو واجدً لك نداً؟
حاش للّه أنت أفتن الحاظاً
وأحلى شكلاً وأحسن قدا!!
والمعشوقة يزيدها تدللاً علمها بذلك.. امرؤ القيس:
أفاطم مهلاً بعض هذا التدلل
وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
أغرك مني أن حبك قاتلي؟
وأنك مهما تأمري القلب يفعل؟
والبهاء زهير:
عرف الحبيب مكانه فتدللا
وقنعت منه بموعدٍ فتعللا
والجمال يجعله يتدلل أيضا:
هيهات يعدل في قضيته
قمر يدل بدولة الحسن
والدلال يمنحه نشوة قال ابن مليك:
يميل به خمر الدلال كأنما
معاطفه من خمر ألحاظه سكرى!!
خزامى الصحاري ,, خيال مطير ~
مساكين أهل الع!شق!
http://s.alriyadh.com/2012/05/07/img/348737769281.jpg
العشق العنيف يصيب أصحابه بالضعف والمسكنة أمام الحبيب.ومع أن العربي -بشموخه المعروف - أكره مالديه الذل للمحبوبة ..فللحبيب أن يتدلل وعلى المحب أن يتذلل ..
يقول أبو الطيب المتنبي :
تذلّل لها واخضع على القُرب والنوى
فما عاشقٌ من لايذلّ ويخضعُ
ولآخر:
قالوا عهدناك ذا عزّ فقلت لهم
لا يعجب الناس من ذل المحبينا
لا تنكروا ذلة العشاق إنهم
مستعبدون برق الحب راضونا
وقال أعرابي:
اخضع وذل لمن تحب فليس في
شرع الهوى أنفٌ يُشال ويُعقد
وقال أبو فراس الحمداني:
لقد ضلّ من تحوي هواه فريدةٌ
وقد ذلّ من تقضي عليه كِعاب
وسئلت أعرابية عن الهوى -الحب- فقالت:
إن الهوى هو الهوَان نُقِّص اسمه
فإذا هويت فقد لقيت هوانا
وإذا هويت فقد تعبِّدك الهوى
فاخضع لإلفك كائناً من كانا
ومن الشعر السهل السائر في وصف حالة العاشق وما يلقى من معاناة :
فما في الأرض أشقى من محب
وإن وجد الهوى حلو المذاق
تراه باكياً في كل حين
مخافة فراقة أو لاشتياق
فيبكي إن نأوا شوقاً اليهم
ويبكي إن دنوا حذر الفراق
فتسخن عينه عند الفراق
وتسخن عينه عند التلاقي
ومثله :
قالوا جننت بمن تهوى فقلت لهم
العشق أعظم مما بالمجانين
العشق لا يستفيق الدهر صاحبه
وإنما يصرع المجنون فى الحين
وقريب منه قول الشاعر :
مررت بقبر دارس وسط روضة
عليه من النعمان سبع شقائق
فقلت لمن ذا القبر؟ جاوبني الثرى
تأدب فهذا القبر قبر مفارق
فقلت رعاك الله يا ميت الجوى
واسكنك الفردوس أعلى الشواهق
مساكين أهل العشق حتى قبورهم
عليها تراب الذل بين الخلائق
فإن استطعت زرعت حولك روضة
وأسقيتها من دمعي المتدافق
وقصة الانسان مع الحب هي قصته مع الشوق الى الجمال .. فالمحب يرى محبوبه في منتهى الجمال , وإذ يصاب العاشق بالحرمان من محبوبه - الذي يراه الأجمل من كل الناس - فإنه يصاب بالظمأ إلى الجمال ..
وهذا الظمأ يشبه الى حد كبير الظمأ إلى الماء .. غير أن ظمأ العشق يقتل ببطء .. يعذب العاشق
يقول الدجميا -رحمه الله- وهو ممن قتلهم الحب :
ياجر قلبي جر لدن الغصوني
وغصون سدر جرها السيل جرى
وأهله من أول بالورق يورقوني
على غدير تحته الماء يقرى
على الذي مشيه تخط بهوني
والعصر من بين الفريقين مرى
لا والله اللي بالهوى هوجروني
هجر به الحيلات عيت تسرى
لا مبعد عنهم و لا قربوني
ولا عايف منهم ولاني مورى
واكثر عذاب القلب يوم سنوحوني
بيح بصبري لو بغيت اتدرى
لا ضاق صدري قمت اباري الظعوني
كني غرير بالدلوهة مضرى
وقبلي عليه اشفق وتبكي عيوني
والحال من ود الحبيب تبرى
ان مت فى خدّ بعيد انقلوني
على هدي الزمل مشيه تدرى
ان مت في دافي حشاه ادفنوني
فى مستكن الروح مهوب برى
ياليتهم بالحب ما ولعوني
كان ابعدوا عني بخير وشرى
والا انهم يوم انهم ولعوني
خلوني اقضي حاجتي واتدرى
وياليتهم فى الدرب ما واجهوني
وياليتهم ما زادوا الحر حرى
وياليتهم عن حاجتي سايلوني
يوم اني اقعد عندهم واتحرى
وياليتهم من زادهم اطعموني
انا على زاد اليتيم اتجرى
الخد برق في علو المزوني
تقول براق من الصيف سرى
وقفت عنده شايحات عيوني
كني غرير با للهاوي مضرى
وفي قصص العرب ، وكثير من كتب الأدب القديمة ، خاصة (الأغاني) كثير من القصص والروايات التي يختلط فيها الواقع بالخيال، والاسطورة بالحقيقة، بحيث يصح أن يعتبر (مأثوراً شعبياً) ومنه ماورد مرويا عن (الاصمعي) الذي تُسند إليه الكثير من تلك الحكايات الشعبية .. قال:
بينما كنت اسير فى البادية مررت بحجر مكتوب عليه هذا البيت
أيا معشر العشاق بالله خبروا
اذا حل عشق بالفتى ماذا يصنع
فكتبت تحت هذا البيت:-
يداري هواه ثم يكتم سره.
ويخشع فى كل الامور ويخضع
وحين عدت في اليوم التالي وجدت هذا البيت مكتوباً:-
وكيف يداري والهوى قاتل الفتى
وفي كل يوم قلبه يتقطع
فكتبت تحته:-
اذا لم يجد صبراً لكتمان سره.
.فليس له سوى الموت ينفع
فعدت في اليوم التالى فوجدت شاباً ملقى تحت هذا الحجر ميتا
ومكتوب تحته هذان البيتان:-
سمعنا اطعنا ثم متنا
.فبلغوا سلامي لكل من كان بالوصل يمنع
هنيئاً لارباب النعيم نعيمهم
وللعاشق المسكين ما يتجرع
وكان هذا الحجر فى الصحراء الموحشة وحيداً بعيداً عن الناس
فعرفت ان هذ الفتى كان يحب ولكنه يخاف ان يصارح محبوبته
وعندما صارحها نهرته فقتل نفسه
فقال الاصمعي
مساكين اهل العشق حتى قبورهم
عليها تراب الذل بين المقابر
ومن الشعر العذب الجميل في وصف ضعف العاشقين قول الأمير بدر بن عبدالمحسن:
شعر موج .. وقمر خد ..
دفا روح .. وطغى قد ..
وراعي الهوى مسكين ..
زهى الكحل .. في الحاجر الفتان
وسرى الليل .. تو الفجر ما بان
وراعي الهوى مسكين
كما الشمس .. يجهر سنا نوره
ما اقدر أناظر .. والعين مكسورة
وراعي الهوى مسكين ..
ثغر ورد .. وردة شكت ورده
من دونها الشوق .. والرمح والقرده
وراعي الهوى مسكين ..
كان هذا العشق العارم -وأحياناً القاتل- يجوس صحراء العرب قديماً ، ويعيش بين القبائل ، وخاصة قبيلة (عذرة) التي نسب لها الحب العذري ، والتي منها مجنون ليلى -أشهر مساكين الحب على الاطلاق- وقيس بن ذريح، وجميل بثينة، وعروة بن حزام، والمجنون (قيس بن الملوح)، وتوبة بن حمير، ومن شعرائنا الشعبيين (الدجيما) و (ابن عمار) رحم الله الجميع ..
أما في هذا الزمان فالعشق القاتل نادر فقد صار الحب وردة قريبة الذبول وشمعة تنطفئ بنفخة وشمساً سريعة الأفول ..
والعشق في هذا العصر لم يَمُتء.. ولا يمكن أن يموت طالما كان في صدر الإنسان هذا القلب الخفاق.. وفي وجهه عينان يسحرهما الجمال.. وفي خياله تلك الرؤى والأشواق...
يُرءوَى أن رجلاً مفلساً قال شامتاً حين انخفضت أسعار الذهب إلى الحضيص:
- مساكين أهل الذهب!
فقال له أحدهم:
- المسكين الذي ما عنده ذهب.. مثلك!
وربما ينطبق هذا - أيضاً - على العشاق والخالين.. فالعشاق - وبالذات من طرف واحد والذين حالت الظروف بينهم وبين ما يشتهون وهو وصال الحبيب - يتألمون فعلاً ولكنهم لا يعرفون الملل ولا الخمول.. حياتهم ملأى.. فيها إثارة وشوق ورجاء ومسكنة فعلاً! وهذه هي المصيبة.. المسكنة!.. فمن أضعف الأشياء أن يكون الإنسان "مسكيناً" لغير الله عز وجل..
كما أن في حياة العاشقين - مع ما فيها من حرارة وإثارة - خضوع للحبيب، ولعل هذا جزءا من المسكنة، فالعشق يجعلهم يخضعون للحبيب إلى حد التذلل أحياناً!
سِنّة العشاقِ واحدةٌ
فإذا أحببتَ فاستكِنِ!
فقد جرت أخلاق العشاق في القديم والحديث - عدا العاشق المستكبر - على التذلل للمحبوب والتقرُّب الوديع إليه بلا حساسية ولا استكبار، ولم يروا في ذلك خدشاً للكرامة ولا نقصاً في الرجولة، لأن ذلك من اداب العشق، ومن حقوق الحبيب، ومن طبيعة العاشقين في كل زمان ومكان:
مساكينُ أهلُ العشقِ حتى قبورهم
عليها تراب الذل بين المقابِرِ
كما يقول العاشق القديم..
أما الأعراب - وهم أهل أنفة وكرامة - فإنهم يستثنون من تلك الأنفة العشق والعشاق.. فيقولون:
@ "للحبيب أن يتدلّل.. وعلى المحب أن يتذلل"!
ويقول مَنء جرب منهم:
إن الهوى هو الهوانُ نُقصَ اسمُهُ
فإذا هَوَيءتَ فقد لَقيتَ هوانا
وإذا هَوَيتَ فقد تعبَّدَكَ الهوى
فاخضع لإلفك كائناً من كانا
والعاشقون - في العادة - راضون بذلهم للحبيب:
قالوا عهدناكَ ذا عِزّ فقلتُ لهم
لا يعجب الناس من ذل المحبينا
لا تنكروا ذلة العشاق إنَّهُمُ
مستعبدون برقِّ الحب راضُونا
ويقول الآخر:
اخضع وذل لمن تحب فليس في
شرع الهوى أنفٌ يُشَال ويُعءقَدُ
ويقول محمد بن داود الأصبهاني الذي ألف كتاباً كبيراَ(1) عن العشق: (التذلل للحبيب من شيم الأديب).
أما ابن حزم الظاهري صاحب كتاب (طوق الحمامة)فيقول : "حضرتُ مقام المعتذرِين بين أيدي السلاطين، ومواقف المتهمين بعظيم الذنوب مع المتمردين الطاغين، فما رأيت أذل من موقف حبّ هيمان بين يدي محبوبٍ غضبان!"
وهشام بن الحكيم - وكان من أكثر الناس أنفةً - يقول:
(في الحب يصبح المحب عبداً مملوكاً ويخضع لمحبوبه).
حتي المتنبي الذي لا يكاد يرى أحداً من الناس غطرسةً واستكباراً، يقول:
تذلّل واخضع على القرب والنوى
فما عاشقٌ من لا يذلُّ ويخضع!
ويقول:
أَرَقٌ على أرقٍ ومثليَ يأءرَقُ
وجوىً يزيد وعَبءرَةٌ تترقرقُ
جَهءدُ الصبابةِ أن تكونَ كما أرى
عينٌ مُسَهَّدةُ وقلبٌ يخفِقُ
ما لاحَ برقٌ أو ترنم طائرٌ
إلا انثنيتُ ولي فؤادٌ شَيِّقُ
جرَّبتُ مِن نار الهوى ما تنطفي
نارُ الغَضَى وتكِلُّ عما تُحءرِقُ
وعذلتُ أهلَ العشقِ حتى ذُقءتُهُ
فعجِبتُ كيف يموتُ مَنء لا يعشقُ!
بل إن المأمون يقول - وهو ملك الدنيا في زمانه -:
ملك الثلاث الآنساتُ عناني
وحللن من قلبي بكل مكانِ
مالي تطاوعني البريِّةُ كُلُّها
وأُطيعهن وهُنّ في عصيانِي
ما ذاك إلاَّ أنَّ سلطان الهوى
وبِهِ قوينَ أَعزُّ مِن سلطاني!
@ @ @
ويصح أن يقال عنِ العاشق إنه دائماً (متوتر) و(متوفز) و(يعيش على أعصابه) و(كأنه ليس على بعضه) والعلماء يقولون إن (التوتر) يقصر العمر.. والاعمار بيد الله عز وجل.. فإن صدق هذا فإن العشق يساعد في قصف الأعمار.. ناهيك عمن قتلهم العشق فعلاً وهم شباب أو أصابهم بجنون مطبق..
@ @ @
وقد عبر شاعر عاشق عما يصيب حزب العشاق من توتر دائم وشقاء وترقب وعذاب بشكل جميل ومعبر فقال:
وما في الأرضِ أشقى مِن مُحِبٍ
وإنء وجد الهوى عَذبَ المذاقِ
تراهُ باكياً في كُلِّ وقتٍ
مخافةَ فُرءقَةٍ أو لاشتياقِ
فيبكي إن نأوا شوقاً إليهم
ويبكي إن دنوا خوفَ الفراقِ
فتسخن عينُهُ عند التنائي
وتَسءخُنُ عينُهُ عندَ التلاقي
وهذا شعر جميل ومُعَبِّر ومُنَسّق ولكن فيه مبالغة.. وفيه نظرة للموضوع من جهة واحدة.. وهي جهة الشقاء والعذاب اللذين يجدهما العشاق.. ولو أن الشاعر نظر إلى الجهة الأخرى .. وهي جهة السرور والسعادة والنعيم الذي يعيش فيه العشاق لوصف ذلك بنفس النسق ومن نافذة المبالغة والنظرة الأحادية نفسها.. (فما في الأرض أسعد من محب!.. وإن أضناه الهوى أحياناً.. لأنه يستمتع بشكل خيالي في الوصال.. ويشتاق بشكل جميل في الفراق.. فحياته دائماً حارة.. نابضة.. ملأى ومدهوشة.. وموعودة.. هو دائماً إما في سعادة واما على وعد مع السعادة..) نستطيع أن ننظر للموضوع بهذه العين.. ولكن النظرة الموضوعية.. والشاملة.. ترى أن في العشق لذةً وألماً.. سعادة وشقاء.. وأنه - أي العشق - حاد.. حار.. ومتطرف.. فسعادته قوية.. حارقة.. تطرد النوم.. وشقاؤه حار.. مؤلم.. يُمَزِّق الأعصاب.. وتلك هي حياتنا الدنيا.. وذلك هو قدرنا نحن البشر.. لا يوجد سعادة كاملة ولا يمكن.. الا في جنة الله لمن آمن وعمل صالحاً وتغمده الله - عز وجل - منه برحمة وفضل.. أما في هذه الدنيا فلا توجد سعادة كاملة.. ولا قريبة من الكاملة.. لا في العشق ولا في غير العشق.. حتى لو سارت الأحوال كما يتمنى العاشق.. - وما أقل هذا.. هيهات.. تجري الرياح.. - لو سارت الأمور كما يريد العاشق المحبور ونعم بالوصال الدائم من المحبوب وقفل عليه باب بيته بالزواج والعشق متبادل.. وتلك أرقى الصور.. فإن هناك داءً آخر سوف يمرض تلك السعادة.. هو داء الملل والعادة.. يذهب العشق مع الوصال.. ويبقى الملل والبلادة والخمول والروتين القبيح.. دوام الحال من المحال.. والعشق عاطفة صارخة لا يمكن أن تستمر بهذا الصراخ المخيف.. الصراخ إما أن يقتل.. أو يخفت حتى يسكت سلوى .. أو سد فم بتخمة.. أو يأساً واليأس أحد الراحتين..
@ @ @
والعشق في هذا العصر لم يَمُتء.. ولا يمكن أن يموت طالما كان في صدر الإنسان هذا القلب الخفاق.. وفي وجهه عينان يسحرهما الجمال.. وفي خياله تلك الرؤى والأشواق.. وفي وجدانه ذلك الظمأ والانبهار.. لا يمكن أن يموت العشق.. لا في عصرنا هذا.. ولا في غيره من العصور.. ولكنه قد يخف ويخفت قليلاً.. مع عصر السرعة والاضطراب، ومع ما هو أخطر، وهو (تبذل المرأة) وتبرجها.. فالعشق يقوم على (السر) أي (السر الخفي في المحبوب) والمرأة المتبرجة مفضوحة.. لا سر فيها.. ولا غموض.. وبالتالي لا توجد فتنة.. كل ما هو مبذول.. مملول.. وكل ما هو ممنوع.. متبوع.. والعشق رجل.. وامرأة.. وحرمان..
@ @ @
ورغم هذا كله يبقى العشق موجوداً.. ولكنه قد يُغيِّر ملابسه بما يتلاءم مع طبيعة العصر.. وقد يكون خفيفاً سريع التغيير!.
هامش
http://www.enjaztech.com/vb/uploadcenter/uploads/02-2013/PIC-249-1360371783.jpg
الحب شعاع سحري يعذب ويطرب في آن..
عذاب الحب معجون بلذته.. وشقاؤه ممزوج مع سعادته..
الحب هو الموجز المختصر لطبيعة الإنسان وهو عنوان قصته مع السعادة! فالسعادة الخالصة شوق الإنسان منذ الأزل.. ولكنها غير موجودة! والحب شوق الإنسان إلى الخلاص من الشقاء، وتوقه إلى الاستمتاع بالجمال، وهذا الايتم إلا بخطى تسير حافية على جسر العذاب حيث يسكن الحبيب في قصر الهوى.. ولابد من التذلل للحبيب، والعجيب أنه تذلل لذيذ، وأن أشد الرجال استكباراً إذا وقع في الهوى حقاً استمرأ التذلل للحبيب ووجد فيه لذة!! وكلما تدلل الحبيب وهو يتذلل له ازدادت نيران غرامه اضطراماً وزادت خفقات قلبه اضطراباً وهو يجد في هذا لذة قصوى ممزوجة مع مرارة كبرى: لذة الشوق والشوق للوصال، ومرارة التمنع والحرمان، وما العشق إلا رجل وامرأة وحرمان، وما السعادة ذاتها إلا نيل بعد حرمان..
http://s.alriyadh.com/2006/07/31/img/267034.jpg
وقدر العاشقين على مر الأيام والسنين أنه الحبيب أن يتدلل. وعلى المحب أن يتذلل، وهذا لا يشمل الرجال فقط، يشمل الرجل والمرأة، في الحب لا تفرقة و (ليس في الحب يا أمي أرحميني) كما يقول الشاعر العاشق.. المرأة أقدر على التدلل من الرجال ودلالها يزيدها جمالاً، ويزيد عاشقها هياماً، ولكن الرجل قد «يغلي» و «يتمنع» وأحب شيء إلى الإنسان ما منعا، خاصة المرأة إذا كانت عاشقة، فالمرأة بطبعها تهوى ما منعت عنه ومنع عنها:
إن النساء متى ينهين عن خلق فإنه واجب لا بد مفعول!
فكيف حين تنهي عمن تحب وتهوى؟!
والمرأة أشد تطرفاً واندفاعاً في الحب
والكره، يقول المتنبي:
إذا غدرت حسناء وفت بعهدها
فمن عهدها أن لا يدوم لها عهد!
وإن عشقت كانت أشد صبابةً
وإن فركت فاذهب فما فركها قصد!
وإن حقدت لم يبق في قلبها رضىً
وإن رضيت لم يبق في قلبها حقد!
كذلك أخلاق النساء وربما
يضل بها الهادي ويخفى بها الرشد!
المرأة إذن لغز.. ومتناقضة.. ومتطرفة.. ولكن لا شيء يجعل لغزها ويفك متناقضاتها ويبعد بتطرفها إلى أبعد مدى كالعشق..
لا يفك تناقضها فقط بل يفك أوصالها ويفك عقدها ويصيبها بالجنون والاضطراب ويجعل كبرياءها تذهب في خبر كان..!
والمرأة قلما تبدي تذللها لمن تهوى علناً، وإن كانت قد ركعت من ذل الحب، وهو ذل فيه لذة..
فالمرأة تريد.. وتعودت.. أن تكون مطلوبةً لا طالبة.. وأن تتمنع وهي راغبة..
ولكنها إذا عشقت حقاً مزق العشق ما أرادت.. وما اعتادت.. كأنما ركبها «جني» لا يترك فيها عقلاً.. ولاإرادة..
والحب العنيف.. الصادق.. يشبه «الجني» يجول في دماء العاشق ويجوس خلال مشاعره وهواجسه.. رجلاً كان.. أو امرأة.. الجنون يصيب المرأة والرجل.. والحب مثله!
والتذلل والدلال يزيد الرجل هياماً بمن يعشق.
لأن التدلل والدلال يزيد المحبوب جمالاً
على ما فيه من جمال.. ولأن الدلال يرمز للإغراء والإقبال.. وبعض الرجال أساس عشقه لمحبوبه ما يبديه من تدلل أمامه ودلال عليه.. الدلال الذي يوحي بالإقبال ويحتجز بالعفاف.. قال جميل.
ولست على بذل الصفاء هويتها
ولكن سبتني بالدلال وبالبخل!
ويذكر (ابن سبيل) أنه كلما حاول نسيان الهوى ذكره به لفتات الحبيب (وهي من الدلال) فيتركز الهوى أكثر:
وإلى توسع خاطري واسفهليت
وتركت هويات القدم وشهواته
إما سمعت أو شفت والاتحريت
فتقٍ بقلبي فزته والتفاته
قالوا جهلت وقلت بالجهل اقريت
الجاهل اللي ما تذكر طراته
يلومني خبل هروجه سفاريت
ماذاق طربات الهوى واسفهاته!!
يحاول أن ينسى الحبيب ويرتاح باله من عذاب الحب ولذته فهو لا يريد لذة ممزوجة بالعذاب ولكنه لا يستطيع تحقيق ما يريد، يعيده إلى حب الحبيب (صوته) و (شوفته) و (لفتاته) ويلومونه يقولون: جاهل أو يقول: أنا أّشهد أنني جاهل.. أقر بذلك قالوا جهلت وقلت بالجهل اقريت!! أي أقررت طائعاً مختاراً!.. ولكن من الذي يلوم؟.. إنه الجاهل بالحب الذي لم يذق لذته ولم يعرف صبوته!.. اللائم جاهل بالهوى.. خبل!!.. كلامه فاضي! كلامه مردود عليه لأنه لم يذق الحب أصلاً ولم يعرفه وكيف يحكم على ما لا يعرف:
لا يلومني خبلٍ
هروجه سفاريت، مذاق طربات
الهوى واسفهاته!!
وكل بعقله راض: الخبل راض والعاشق راض
ولهذا يقول ابن سبيل أيضاً:
يا ناس خلو كل وادٍ ومجراه
قلتو كثير وقولكم ما لقيته! معه حق! فمن يسبه دل الحبيب ودلاله يستعذب فيه العذاب الذي يشفق عليه منه لائموه واهله:
هلي يلو موني ولا يدرون
والنار تحرق رجل واطيها!
كما يقول ابن لعبون..
ونار الحبيب فيها لذة وإثارة للحس والخيال.. لهذا يواصل:
«أربع بناقر في يد المزيون
توه ضحى العيد شاريها
عمره ثمان مع عشر مضمون
مشي الحبيب الراعبي فيها»
ومشي الحمام الراعبي فيه رشاقة وأناقة.. ويتلفت وهو يمشي.. وحبيبة ابن لعبون تمشي في نضارة شبابها يغنج ودلال وهو يرى يتمتع ويتعذب معا..
والدل والدلال تمنح الأمل يقول الشريف الرضي:
لئن آيسني الصد لقد أطمعني الدل
ولذلك يظل العاشق معلقاً بأهداب المعشوق كمسجون لا يريد الخروج
يقول ديك الجن:
يا كثير الدل والغنج، لك سلطان على المهج
لا أتاح اللّه لي فرجاً يوم أدعو منك بالفرج!
وقد أوجز شهاب الدين الاعزازي الذل المرغوب للحبيب الذي يتدلل:
خطرات النسيم تجرح خديه
ولمس الحرير يدمي بنانه
قال لي والدلال يعطف منه
قامة كالقضيب ذات ليانه
هل عرفت الهوى؟ قلت وهل
أنكر دعواه؟ قال فاحمل هوانه!
والحبيب الذي يتقن الدل والدلال يخطف القلب ويلعب بالعقل:
لي حبيب قد لج في الهجر جدا
وأعاد الصدود منه وأبدا
ذو فنون يريك في كل يوم
خلقاً من جفائه مستجدا
يتأبي منعماً وينعم إسعا
فاً ويدنو وصلاً ويبعد صدا
أتراني مستبدلاً بك ما عشت
بديلاً أو واجدً لك نداً؟
حاش للّه أنت أفتن الحاظاً
وأحلى شكلاً وأحسن قدا!!
والمعشوقة يزيدها تدللاً علمها بذلك.. امرؤ القيس:
أفاطم مهلاً بعض هذا التدلل
وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
أغرك مني أن حبك قاتلي؟
وأنك مهما تأمري القلب يفعل؟
والبهاء زهير:
عرف الحبيب مكانه فتدللا
وقنعت منه بموعدٍ فتعللا
والجمال يجعله يتدلل أيضا:
هيهات يعدل في قضيته
قمر يدل بدولة الحسن
والدلال يمنحه نشوة قال ابن مليك:
يميل به خمر الدلال كأنما
معاطفه من خمر ألحاظه سكرى!!
خزامى الصحاري ,, خيال مطير ~