حمد اليامي
30-07-2015, 02:00 PM
دلمون
حضارة قديمة في الخليج العربي
في البداية لمحة بسيطة عن حضارة دلمون من كتاب قصة وتاريخ الحضارات العربية (بين الأمس واليوم) (الكويت والبحرين)...
*******
حضارة دلمون
دلمون هي مملكة صغيرة نشأت في أوائل الألف الثالث قبل الميلاد واستمرت حوالي 3 آلاف سنة وكانت تتألف من جزيرة دلمون (أي البحرين اليوم) ومن المنطقة الشرقية من المملكة السعودية اليوم. أمّا سكّانها فكانوا من الساميين.
وكان سكّان دلمون يدفنون الأموات من محاربيهم في آكام من الصخور تسمى "طعوسا". ولا تزال هذه الآكام صامدة حتّى يومنا هذا، تضفي على البلد رونقاً خاصاً إذ يتراوح ارتفاعها من 4 إلى 9 أقدام وقطرها من 10 إلى 24 قدماً عند القاعدة. ويظن بعض الباحثين أنّ البحرين تضم أكبر مقبرة في العالم كلّه.
الثروة المائية:
كانت هذه المنطقة منذ القدم محط إعجاب ودهشة بسبب المياه الوفيرة التي تتدفّق في جنباتها. لذلك نرى في الجزء الشمالي من الجزيرة حدائق غنّاء تتوق العين إلى التمتع بروعتها وسحرها. وكان الأقدمون يعتبرون هذه المياه مقدسة، لا بل هدية من السماء بسبب ندرتها في هذه البقعة من العالم حيث تشتد حرارة الشمس والقيظ.
دلمون والسومريون:
قدم السومرون إلى وادي الرافدين قبل 3000 سنة من الميلاد وأقاموا في تلك المنطقة. أما ماضي هذا الشعب ووطنه الأم فهما أمران لا يزالان مجهولين حتى اليوم. غير أنّ أساطيرهم تأتي على ذكر مكان يُدعى دلمون غني بالمياه العذبة ويعبد سكانه الالهين انكي ونينخورساك. ويبيّن أقدم نص تاريخي ذكرت فيه دلمون كُتب حوالي (2500 ق.م) أنّ هذه المنطقة كانت لها علاقات تجارية وثيقة مع الولاية السومرية لاغاش التي كانت ترسل إليها التمر والنحاس والخام.
دلمون والأكاديين:
حوالي سنة 2360 ق.م. قام ملك يدعر سرجون الأكادي بموجة من الفتوحات فسيطر على الدويلات السومرية ووصل إلى عيلام وسوريا والجزيرة الواقعة جنوب البحر الواطئ ومن ثمّ دلمون. غير أنّ دلمون عادت واستعادت حرّيتها واستقلالها بعد فترة وجيزة. ولكن فترة الاستقلال هذه لم تدم طويلاً إذ عاد ملك أكادي آخر واحتلها.
دلمون والبابليون:
مع نهاية الألف الثالث قبل الميلاد بدأ الأكاديون يتضاعفون تدريجياً لتحل مكانهم امبراطورية أخرى تعود إلى البابليين. وتدل الوثائق إلى أنّ دلمون كانت تحت سيطرتهم منذ 1987 ق.م. وظلّ البابليون يبسطون نفوذهم على هذه المنطقة حتّى سنة 1260 ق.م. عندما بدأ الآشوريون يطالبون بالسيطرة على دلمون.
دلمون والآشوريون:
منذ القرن الثامن قبل الميلاد راح الآشوريون يلجأون إلى القوة والقمع للاستيلاء على البلاد المجاورة. وقد دفعت هذه السياسة عدداً كبيراً من الدول إمّا إلى الاستسلام أو إلى الحرب. ويعني هذا الحل الأخير الدمار والقتل. وساهم في نجاح الآشوريين الجيش الذي أحسنوا إعداده وتدريبه.ولم يختلف مصير دلمون عن مصير غيرها من الدول فأراد سرجون الآشوري (722-705 ق.م)، وهو يعشق التمثّل بالزعيم الأكادي الذي يحمل اسمه، أن يسيطر على دلمون كما فعل سرجون الأكادي. ولم تسقط دلمون بين أيدي الآشوريين غلاّ على عهد آشور بانيبال. غير أنّه حوالي سنة 605 ق.م. سقطت الامبراطورية الآشورية فتحررت شعوب المنطقة كلّها من هذا المستعمر المتعطش للدماء.
أسطورة دلمون:
في الأزمان الغابرة منحت جزيرة دلمون إلى الالهين انكي (سيد الأرض ومصدر الذكاء والفهم والاخصاب وهو يمثّل القوّة الممكنة في الماء) ونينهر ساجا (الأرض الأم) ليتقاسماها.
واستجابة لطلب نينهر ساجا، دفق انكي بالمياه على دلمون. ومن ثمّ تودّد إلى نينهر ساجا وطلب يدها. فقبلت هذه الأخيرة بعد تردّد بسيط. وتأتي ثمرة هذا الزواج إلهة النبات نينار. غير أنّ انكي لم يمكث بالقرب من نينهر ساجا، بل ظلّ يطوف في الجزيرة سائلاً رقراقاً. ومع نهاية فصل الربيع توجه إلى حافة النهر حيث رأى للمرة الأولى نينار بعد أن تحوّلت إلى شابة نظرة، لا سيّما وأن النباتات تتكاثر وتخضر على ضفة النهر في ذلك الوقت. فأعجب بها وأغواها فأنجب إلهة الخيوط الليفية. وهكذا راحت تتكرّر هذه الحكاية فولدت إلهة الصباغة التي أنجبت اوتو إلهة الثياب والنسيج.
وعند هذه النقطة تحاول نينهر ساجا أن تنبه أوتو من امكي، غير أنها لم تستمع لتحذيره بل سقطت سكرى بين يدي حبيبها الذي غمرها بالهدايا.
ثمّ قام انكي بابتلاع ثمانية من الآلهة مما أثار غضب نينهر ساجا التي لعنته فوراً. فمرض انكي وتكدست المياه في باطن الأرض وراحت الحياة تذبل شيئاً فشيئاً. فتدخلت الآلهة طالبة من نينهر ساجا أن ترحم انكي وتشفق عليه. فتستجيب نينهر ساجا للطلب وتساعد انكي على الشفاء وينجبان ثمانية آلهة هي نفسها التي ابتلعها... فتعود الحياة إلى التدفق والجريان.
دلمون: في الأساطير السومرية والبابلية
لم يكن الربط بين اسم دلمون القديمة والبحرين الحديثة أمراً سهلاً..حقاً لقد عرف علماء الآشوريات في القرن الماضي أنّ هناك مكاناً يسمى دلمون يتمتع بأهمية خاصة في الأساطير السومرية والبابلية القديمة وفي التاريخ السياسي لشعوب ما بين النهرين إلى حد ما، ولكن ما حقيقة هذا الاسم، هل هو مكان اسطوري أم مكان حقيقي؟ وإذا كان مكاناً حقيقياً كما هو الأرجح فأين يقع؟ إنّ أقصى ما كانت تفيده الوثائق القديمة أنّ دلمون مملكة تقع إلى الجنوب من بابل.
ولم يهتم علماء الآشوريات في القرن الماضي اهتماماً جدياً بالبحث عن مكان دلمون أو التحقق من وجودها. فقد كانت هذه المسألة تبدو لهم ذات أهمية ثانوية بالنسبة للمسائل الخطيرة الأخرى التي بدأت تثيرها الاكتشافات الرائعة المتوالية في بلاد ما بين النهرين والتي جعلت أذهان العلماء تنصرف تماماً إلى اكتشاف تلك الحضارات القديمة التي قامت تباعاً في المنطقة وكانت إلى جانب الحضارة المصرية المزدهرة على ضفاف النيل بمثابة لبنات الأساس للتاريخ العالمي كله، فلماذا يشغل هؤلاء العلماء أنفسهم إذن بالبحث عن حقيقة اسم ورد بصفة عابرة في بعض النقوش أو السجلات الثانوية في الوقت الذي تنتظرهم تلال من الوثائق المكتشفة في حاجة إلى البحث والتفسير والتحميص؟
وهكذا ظلت حقيقة دلمون مجهولة على الرغم من معرفة اسمها بالفعل، وعندما ربط العلماء بين دلمون والبحرين كان ذلك في حد ذاته اكتشافاً مثيراً أسبه بفك غوامض لغز مثير في علم الآثار، وعوضهم الكشف الجديد بأثمن مما بذل فيه من جهد، إذ أنهم انتشلوا حضارة ضائعة ظلت حوالي ألفي عام على أقل تقدير واحدة من أروع حضارات العالم القديم.
دلمون في النقوش القديمة:
ولكن قبل أن نصل إلى هذه القصة لابد من إشارة سريعة إلى بعض النقوش البابلية والآشورية التي ورد بها اسم دلمون والتي كانت بمثابة علامات الطريق في التقدم نحو هذا الكشف المثير.
في عام 1861 اكتشف العلماء في أطلال قصر الملك آشور بانيبال الذي حكم مملكة آشور في القرن السابع قبل الميلاد مكتبة سليمة تضم آلافاً من الألواح الطينية المكتوبة بالخط المسماري. كانت المكتبة تحتوي ثروة ضخمة من المعلومات في مختلف الميادين منها قوائم بأسماء المدن وأقاليم وآلهة، وأجزاء من قصائد وأساطير، وقواميس تحوي كلمات متقابلة بلغات مختلفة مع شرح لمعناها وطريقة نطقها، وبعضها مكتوب بلغات أجنبية مع ترجمة لها إلى اللغة الآشورية أو بدونها، وبعضها الآخر بلغات أكثر قدماً من اللغة الآشورية كالبابلية القديمة والسومية الأقدم عهداً، وقدر عدد هذه الألواح بين سليم ومكسور بنحو 25 ألف لوح. وأودعت هذه الألواح جميعاً في المتحف البريطاني بلندن لتكون ذخيرة لأبحاث تستغرق سنوات وسنوات من جانب علماء اللغات الشرقية القديمة.
وكان من أوائل الذين عكفوا على دراسة هذه الألواح وفك رموزها العالم البريطاني راولنسون الذي قام بتصنيفها واختار منها بعض الكتابات تولّى نشرها تباعاً في مجموعات متتالية. وقد ورد اسم دلمون مرتين في المجموعة الثانية من مجموعات راولنسون، ومرتين في المجموعة الثالثة، ومرتين في المجموعة الرابعة.
والواقع أنّ اسم دلمون كان معروفاً قبل ظهور مجموعات راولنسون، فقد عثر عليه قبل ذلك منقوشاً في نص على جدران قصر الملك سرجون الآشوري (القرن السابع ق.م.) الذي اكتشفه العالم لايار في كويونجيك وقد جاء في هذا النص الذي يسجل فتوحات الملك وحملاته العسكرية:
"وأخضعت تحت امرتي بيت ياكين على شاطئ البحر الأحمر منطقة الخليج دلمون" ثمّ يضيف النص أنّ "أوبيري ملك دلمون الذي يعيش دلمون الماء على مسافة 30 ساعة مزدوجة (بيرو) وسط بحر الشمس المشرقة سمع قوتي وبعث لي بهداياه".
ولم تفد الاشارات إلى اسم دلمون التي وردت في مجموعات راولنسون كثيراً في زيادة معلومات العلماء عنها. إذ أن ثلاثاً من هذه الاشارات جاءت في أشعار أو أغان تربط على نحو غامض بين دلمون وعدد من الآلهة المختلفة. وواحدة تذكر دلمون في عداد المدن الخاضعة لآشور في زمن الملك آشور بانيبال، والاشارة الخامسة جاءت في قائمة تحتوي أسماء بعض الآلهة والأقاليم التي تحت هيمنتها، وفي هذه القائمة سطر يقول "الإله انزاك .. إله دلمون"، أما النص السادس والأخير فهو عبارة عن لوح مسماري يسجل أعمال الملك سرجون الأكدي ويذكر أنّه وصل إلى "البحر الأسفل وهزم ديلمون".
وقد ظن سير راولنسون في أول الأمر أن سرجون الأكدي هذا شخصية أسطورية. ولكن الاكتشافات التي توالت في بلاد ما بين النهرين لم تلبث أن أثبتت أنه شخصية حقيقية، فهو مؤسس الامبراطورية الأكادية بعد أن هزم السومريين وقضى على مدنهم وجعل عاصمته "آكاد" في جنوب العراق عاصمة لامبراطورية شاسعة الأطراف تمتد من شاطئ البحر المتوسط غرباً إلى شواطئ الخليج جنوباً. وقد عاش هذا الفاتح "السامي" الكبير حوالي عام 2300 ق.م. أي أنه يسبق بستة عشرة قرناً سميه سرجون الآشوري الذي عاش في القرن السابع قبل الميلاد والذي سبق أن رأينا أنه أخضع ديلمون أيضاً وتلقى الهدايا من ملكها أوبيري.
مسألة دلمون:
وعلى أية حال فإن علماء الآشوريات كما سلف القول لم يهتموا كثيراً بتعيين مكان دلمون، فقد كان أمامهم ما يهتمون به أكثر وهم عاكفون على استخلاص تلك الحضارة البابلية العظيمة من الضباب الأثري ومقارنة ما تسفر عنه الاكتشافات الأثرية بما سجل عن أحوال بلاد شنغار وملوك الرافدين في اصحاحات العهد القديم.
ولكن مسألة دلمون لم تلبث أن برزت وفرضت نفسها على رجال الآثار المشغولين بما يتصورون أنّه أهم وأجدى.
ففي عام 1880 اكتشف رحالة بريطاني يدعى الكابتن ديوراند حجراً عليه كتابة مسمارية في مسجد قديم بالبحرين. وكان هذا الاكتشاف بمثابة حجر الزاوية في معرفتنا بتاريخ البحرين القديم على نحو يذكرنا بحجر رشيد بالنسبة لمعرفتنا باللغة المصرية القديمة. ونستمع إلى الكابتن ديوراند يقص نبأ عثوره على الحجر، فيقول:
"... وأخيراً أبلغني أحد الناس عن حجر عليه كتابة لا يعرف نوع كتابتها أو قراءتها، فذهبت لرؤية ذلك الحجر المطمور في أرض مدرسة الداوود بالبلاد القديم...وهذا الحجر من البازلت الأسود يشبه في شكله مقدمة السفينة أو لسان الحيوان وهو بطول قدمين وبوصتين، وبالرغم من قداسة المكان الذي يوجد فيه الحجر إلا أنني لم أواجه أية صعوبة في الحصول عليه وذلك بعد أن أخبرت الملاّ بأنّ ذلك الحجر يخصُّ عبدة النار وأنّه بمثابة صنم لا يناسب المكان المطمور بأرضه، ولكي أدعم كلامي ووجهة نظري تبرعت ببضع روبيات لترميم المسجد فما كان من الشيخ (الملاّ) واسمه أحمد إلاّ أن أرسل أحد عبيده ليحفر الأرض وينقل ذلك الحجر إلى منزلي".
ولمّا فكت طلاسم الكتابة المسمارية المنقوشة على الحجر وجد أنها عبارة عن جملة واحدة في ثلاثة أسطر تقول:
Hekal. Rimugas cri Inzak Agiru
وترجمتها: "هذا قصر ريموقاس
خادم الاله انزاك
من قبيلة عقير"
وكانت هذه العبارة بمثابة مفتاح سر دلمون الغامض، فقد كلفت الجمعية الآسيوية الملكية التي نشرت تقرير الكابتن ديوراند عالم الآشوريات البريطاني سير راولنسون بأن يعلق على التقرير. وكتب راولنسون مقالاً بديعاً في حجم تقرير ديوراند نفسه عن مسألة دلمون ربط فيه لأول مرّة بين اسم دلمون القديمة والبحرين الحديثة وأورد فيه جميع الاشارات التي وردت عن ديلمون ومنطقة الخليج في الكتابات المسمارية ومؤلفات الاغريق والرومان، كما تحدث عن مكانة دلمون في أساطير البابليين وديانتهم.
اعتمد راولنسون على النص الذي سبق أن نشره في إحدى مجموعاته والذي يقول : "الاله انزاك... اله دلمون" للقول بأنّ اكتشاف أثر لكاهن هذا الاله في البحرين يدل على أنّ البحرين هي نفسها دلمون القديمة. وقال راولنسون أنّ انزاك اسم أكادي للإله Nedo الذي يسميه الإغريق Mercury أي عطارد، والمعروف أنّ الاغريق منذ أيام الاسكندر يرون أنّ أهم عبادة كانت في منطقة الخليج العربي هي عبادة فينوس إلهة الحب والجمال وهي ذات علاقة بعطارد أو انزاك باللغة الأكادية البابلية.
ولكن سير راولنسون أقام اعتقاده هذا على الحدس أكثر مما أقامه على الدليل القاطع... وقد أثبتت الاكتشافات التالية صحة حدسه. وأتى بعد ذلك دكتور بيتر كورنوال الذي قام خلال الحرب العالمية الثانية بالتنقيب في عدد من تلال المدافن بالبحرين ثمّ كتب نظرية مفصلة قدّم فيها مزيداً من الأدلة على أنّ البحرين هي دلمون القديمة.
نص سرجون الآشوري:
إذا كانت دلمون هي البحرين كما استنتج راولنسون من الربط بين ما جاء في الحجر الأسود من أنّ البحرين هي مقر انزاك وما جاء في الوثيقة المسمارية التي ورد بها نص يقول: "الاله انزاك اله دلمون" فهل ينطبق هذا الاستنتاج المنطقي على اشارة سرجون الآشوري إلى ديلمون بأنها تقع على مسافة 30 ساعة مزدوجة (بيرو) وسط بحر الشمس المشرقة؟.هذا السؤال تصدى للإجابة عنه بالايجاب العالم الاثري الدنماركي جيوفري بيبي الذي قام بالتنقيبات الشهيرة في البحرين ومنطقة الخليج. إذ يعتقد بيبي أنّ نص سرجون الآشوري يحدد بدقة نسبية بالغة موقع ديلمون في الخليج العربي.
إنّ نص سرجون الآشوري يذكر مكانين على وجه التحديد هما بيت ياكين ودلمون، وواضح من النص أنّه كانت هناك حدود مشتركة بين دلمون وبيت ياكين مما يدل على أنّ ملك دلمون (أو بيري) بينما كان يعيش في جزيرة (كالسمكة في الماء) كان يفرض سيطرته أيضاً على جزء من الساحل القاري لبلاد العرب، ولكن بيت ياكين كانت بدورها متصلة بحدود عيلام (التي هي ايران حالياً وعاصمتها سوسة) كما يفهم من النص أيضاً... فأين تقع بيت ياكين على وجه التحديد؟.
نعرف من نص آشوري آخر تركه سنحريب Sennaeherib ابن سرجون الآشوري والذي تولّى الملك بعد أبيه عام 705 ق.م. أنّه حارب ميروداش – بالادان ملك بيت ياكين الذي كان قد ثار بعد أن أخضعه والده سرجون ويقول النص: "أنّ سنحريب هزم ميروداش – بالادان وأخضع بلاده بيت ياكين وإنّ سكان المدن الساحلية في بيت ياكين ركبوا السفن وعبروا البحر حيث لجأوا إلى عيلام" وهذا لا يترك مجالاً للشك في أنّ بيت ياكين كانت على الجانب الغربي للخليج بدليل أنّ سكانها اضطروا لعبور البحر للوصول إلى عيلام على الجانب الشرقي هرباً من سنحريب، وبذلك تكون الحدود المشتركة بين بيت ياكين وعيلام التي تحدث عنها سرجون الآشوري تقع في المنطقة الشمالية من رأس الخليج في مكان ما من الجزء الجنوبي لوادي دجلة والفرات، ويكون موقع دلمون القارية (التابعة لدلمون الجزيرة) جنوبي بيت ياكين على امتداد الساحل العربي للخليج، أي منطقة الاحساء شمالاً إلى الكويت بالأسماء المعاصرة.
نأتي بعد ذلك إلى تحديد موقع جزيرة دلمون حسب نص سرجون الآشوري.
إنّ النص يشير إلى أنها تبعد بمقدار 30 ساعة مزدوجة داخل الماء، والساعة المزدوجة (بيرو) وحدة قياس للمسافة بمقدار ساعتي مشي، أي أنها تبعد بمقدار 60 ساعة مشي، وإلى هنا تبرز عقبتان:
الأولى: أننا لا نعرف من أين يبدأ القياس الذي يؤدي إلى الوصول إلى دلمون بعد 60 ساعة مشي.
الثانية: أننا إذا اعتبرنا أنّ الساعة المزدوجة تقاس بالمشي على الأقدام فإنّ دلمون تكون أبعد كثيراً إلى الشمال عن موقع البحرين الفعلي.
غير أنّ إمعان النظر قليلاً يحلُّ العقبتين... فالأكثر احتمالاً أن يبدأ القياس من (ساجلات) على حدود عيلام حيث يبدو محتملاً أنّ أوبيري ملك ديلمون قدّم هداياه إلى سرجون في هذا المكان، وهو يقع في رأس الخليج أو منطقة شط العرب حالياً حيث تلتقي حدود عيلام وحدود بيت ياكين.
أمّا العقبة الثانية فتزول أيضاً إذا اعتبرنا أنّ البيرو أو الساعة المزدوجة المشار إليها في النص تقاس بالإبحار وليس بالمشي على الاقدام، فعندئذ تبدو المسافة المذكورة معقولة جداً، فإذا كان القارب القديم يبحر مسافة 5 أميال في الساعة الواحدة أي عشرة أميال في الساعة المزدوجة (البيرو) فإنّه يقطع بعد 30 ساعة مزدوجة 300 ميل وهي نفس المسافة التي تبعدها البحرين فعلاً عن رأس الخليج.
وعلى هذا - كما يقول جيوفري بيبي- يكون تخمين راولنسون صحيحاً إلاّ إذا تخلينا عن الشاهد الجغرافي الأثري الوحيد الذي لدينا عن موقع دلمون.
وبعد زمن ديوراند وراولنسون اكتشف اسم دلمون في كثير من الوثائق المسمارية الأخرى المتعلقة بشتّى الأغراض الدينية والتجارية والسياسية، وأقدم وثيقة تذكر اسم دلمون تمّ اكتشافها حتّى الآن هي لوح أور – نانيش ملك لجش الذي عاش حوالي عام 2520 ق.م. وفيه يقول: " أن سفن دلمون القادمة من بلاد أجنبية أحضرت لي الخشب كهدية". أما أحدث وثيقة مسمارية تذكر اسم دلمون فهي وثيقة ادارية من العام الحادي عشر من حكم نابونيدوس ملك بابل الذي عاش عام 544 ق.م. وجاء فيها ذكر حاكم دلمون.
وبذلك تكون دلمون قد استمرت معروفة لمعاصريها في الزمن القديم ألفي عام (من 2520 إلى 544 ق.م.) ولاشكّ أنها كانت معروفة قبل وبعد ذلك وقد تكشف الوثائق في المستقبل ما يزيد من المساحة الزمنية لمعرفتنا بها.
أسطورة الفردوس:
لم تكن دلمون مجرد مملكة صغيرة إلى الجنوب من بابل، ولم تكن مجرد محطة بحرية تجارية في الطريق من الهند إلى بلاد الرافدين ولا تقتصر أهميتها على مجرد معرفتنا بحضارة مفقودة أخرى أو مكان أثري آخر كما هو الحال مع ماجان وميلوخا وعيلام وبيت ياكين وغيرها من نقاط الحضارة المتناثرة حول بلاد الرافدين. وإنّما تكمن أهمية دلمون على وجه التحديد في أنّها تحتل مكاناً فريداً في الميثولوجيا السومرية والبابلية باعتبارها مكاناً مقدساً له مواصفات الجنة أو الفردوس.
وتحدثنا أسطورة سومرية شهيرة عن دلمون كأرض طاهرة نظيفة مشرقة، لا موت فيها ولا مرض ولا عدوان، على نحو يفيد وجود فكرة سومرية عن جنة مقدسة في هذا المكان تصفها الأسطورة في أبياتها الافتتاحية كما يلي:
أرض يلمون مطهرة... أرض دلمون نقية
أرض دلمون نظيفة... أرض دلمون مشرقة
في دلمون لا ينعق الغراب
ولا تصيح الحدأة
ولا يقتل الأسد
ولا يفترس الذئب الحمل
لا يوجد فيها كلب يقتل جدياً
أو خنزير يسطو على غلة
لا أحد يقول عيني تؤلمني
ولا أحد يقول رأسي تصدعني
فيها لا تقول المرأة العجوز: أنا عجوز
ولا يقول الشيخ: أنا طاعن في العمر
فيها الغادة لا تستحم (أي لا تتسخ)
والماء المتلألئ لا يراق
من يعبر النهر (الموت؟) لا تندو عنه.. (صيحة؟)
ولا يمشي إليه الكهنة النائحون
والمغنى لا ينطق بالبائيات
ولا يقف إلى جانب سور المدينة (الجبانة؟) ويرفع عقيرته بالرثاء...
هذه الأسطورة وردت في نص سومري اكتشف في نيبور عبارة عن لوح طيني كبير يضم 278 سطراً من الكتابة المسمارية في ستة أعمدة وهو محفوظ حالياً في متحف جامعة بنسلفانيا الأمريكية، وقد نشر النص لأول مرّة في عام 1915 ولكن ترجمته حينئذ كانت غامضة وغير مفهومة إلى حد كبير. وفي عام 1945 ظهرت ترجمته الدقيقة الواضحة على يد البروفيسور كريمر الثقة العالمي في الحضارة السومرية وأمين قسم الشرق الأدنى بمتحف جامعة بنسلفانيا.
وكان كريمر نفسه هو أول من أطلق على هذه الاسطورة في كتابه "نصوص الشرق الأدنى القديم) أسطورة الفردوس، كما أنّه أسمى اللوح المكتوبة عليه الأسطورة "لوح امرمار" نسبة إلى السيدة امركار التي حملته من العراق إلى أمريكا.
ولحسن الحظ فإنّ لوح امركار هذا الذي يحوي "أسطورة الفردوس" من أحسن الألواح السومرية حفظاً وسلامة، ليست به فراغات أو انقطاعات أو غموض مما أتاح للعلماء معلومات متصلة قيمة عن صسمات الفردوس لدى السومريين التي ربما تكون قد نفذت إلى التصور العبراني للفردوس.
تجري أحداث الأسطورة في ديلمون التي توصف بأنّها "بلاد ومدينة" والتي رأينا وصفاً لها فيما سبق، أما أشخاصها الرئيسيون فهم (انكي) إله الماء و (نينخورساك) ربة الأرض وعدة آلهة أخرى من آلهة النباتات.
وتمضي أحداث الأسطورة بعد الوصف الافتتاحي لجنة ديلمون فتقول أن الشيء الوحيد الذي كان ينقص ديلمون هو الماء العذب، ولذلك طلبت الربة نينخورساك (الأرض) من الإله انكي (اله الماء العذب) أن يوفر المياه العذبة التي تنقص هذه الجنة الأرضية، وهو ما فعله انكي بسعادة، ثمّ يتزوج انكي من نينخورساك وينجبان الإلهة نينسان أو نينمو (إلهة النباتات) ومما له دلالة أنّ الأسطورة تذكر أنّ فترة حمل نينخورساك لنينمو كانت تسعة أيام، أي أنّ اليوم يقابل شهراً بالنسبة للحمل البشري، ووضعت نينخورساك حملها بدون ألم... إذ لا ينبغي أن ننسى أنّ هذه الأحداث تدور في الجنة، ولا ألم في الجنة.
إلى هنا يبدو منطق الأسطورة مفهوماً... التزاوج بين الأرض والماء العذب ينتج النبات، فنحن إذن ازاء أسطورة تفسيرية أي أسطورة تفسر أصل الأشياء لا أسطورة طقوسية أي تستخدم للتلاوة في امراسم الدينية، غير أنّ الأسطورة التي نحن بصددها لا تلبث أن تدخل في مجالات لا يحيط بها ادراكنا الحديث، فتقول أنّ انكي واقع ابنته نينسان فولدت الربة نينكورا وهذه بدورها يوقعها انكي فتلد الربة أوتو التي توصف أيضاً بأنها من آلهة النباتات، وعندئذ تحذر الربة الأم نينخورساك حفيدتها أوتو من انكي وتنصحها كيف تتصرف لتدفع عن نفسها غائلته، ولكن انكي وقد شاهد أوتو على حافة الغدير فتاة يانعة ناضجة يحن إلى مضاجعتها ويتقرب إليها، فتطلب أوتو -ربما نتيجة لنصيحة نينخورساك- أن يأتيها انكي بهدية من الخيار والتفاح والعنب (مما يدل على أن عادة هدية العرس كانت معروفة منذ أقدم العصور) ويحضر انكي الهدية المطلوبة إلى كوخ أوتو وتستقبله هذه بابتهاج، ونتيجة لاتحادهما تولد ثماني مولودات جديدات، ولكن قبل أن تتمكن نينخورساك من اعطاء هذه المولودات أسماءها وخصائصها يبعث انكي رسوله إسيمود لاحضارها له حيث يأكلها جميعاً واحدة وراء الأخرى.
هذه التفاصيل يغمض تفسيرها كما هو واضح، ولكن ربما كانت تشير إلى تفسير بعض الظواهر النباتية نتيجة لاتحاد الماء بالنباتات المختلفة، فتنشأ مثلاً الطحالب ومواد الصباغة... إلخ.
وعلى أية حال تمضي الأسطورة فتقول أنّ نينخورساك تغضب غضباً شديداً من انكي وتصب عليه لعنات رهيبة وتنصرف عنه، كما تستاء الآلهة الأخرى أيضاً من أفعاله، ونتيجة لذلك يسقط انكي مريضاً مصاباً في ثمانية أجزاء مختلفة من جسمه.
ولنا أن نتصور كيف تتدهور الأشياء نتيجة للخصام بين انكي ونينخورساك، أي نتيجة لانحسار الماء العذب عن الأرض الخصبة، فلا بدّ أن تكون النباتات قد ذبلت ووحوش جنة ديلمون وطيورها قد تضررت، إنّ شيئاً غير مقدس (الخصام والغضب) قد حدث في هذه الأرض المقدسة، ولكن الوضع لا يستمر على ذلك طويلاً، إذ يتصدى ثعلب الجنة للمصالحة بينهما، ونتيجة لدهاء الثعلب تعود نينخورساك وتقرر معالجة انكي بأن تخلق ثماني آلهات تتولى كل منها شفاء جزء من أجزاء انكي المريض. وهكذا تخرج ثماني آلهات جدد كان آخرها الاله انشاج المقابل السومري للاله انزاك اله ديلمون الذي عُثر على اسمه مكتوباً على الحجر الأسود الذي اكتشفه الكابتن ديوراند في البحرين.
ويشير الباحثون إلى وجود علاقة لغوية بين أسماء كل من هذه الآلهة الثماني وبين أسماء الأعضاء المصابة في جسد انكي وتبرز منها بصفة خاصة إلهة تدعى نينتي تتولى علاج ضلع انكي، إذ إنّ كلمة "نن" بالسومرية معناها سيدة، وكلمة "تي" تعني ضلعاً، فيكون اسم هذه الربة "سيدة الضلع" ومن العجيب أيضاً في اللغة السومرية أنّ كلمة "تي" تعني ايضاً في اللغة السومرية (الحياة) أي أنّ اسم هذه الربة يمكن أيضاً أن يكون "سيدة الحياة" ... أو "حواء".
وهنا نجد تشابهاً قوياً ملفتاً للنظر بين الاسطورة السومرية وقصة التوراة عن خلق حواء من ضلع آدم. إذ يقول سفر التكوين : "فأوقع الرب الإله سباتاً على آدم فنام فأخذ واحداً من أضلاعه وملأ مكانها لحماً وبنى الرب الإله الضلع التي أخذها من آدم امرأة وأحضرها إلى آدم".
والسطور الختامية في القصيدة السومرية ممحوة بعض الشيء ولكن يبدو أنها توحي بأنّ الىلهة الثماني اعتبرت بنات انكي وابنائه وقامت نينخورساك بتحديد مصائرها، ومن المهم أن نلاحظ أنّ هذه الأسطورة الغريبة لا مقابل لها في أساطير الشرق الأدنى القديم إلا فيما يتعلق بفكرة وجود عصر ذهبي في الماضي السحيق وهي فكرة الانتشار في كل أساطير البشرية.
تأثر العهد القديم بفكرة الجنة الديلمونية
إنّ هذه الاسطورة السومرية التي تدور أحداثها في ديلمون تعد أول أقدم نص بشري يتحدث عن فكرة وجود أرض مقدسة وارفة الظلال، جارية الأنهار، تمت فيها عملية خلق على نحو ما، وهي أرض مبرأة من كل سوء، لا يعرف فيها المرض أو الموت، ولا تفترس الحيوانات بعضها بعضاً. هذه السمات قوية الايحاء بفكرة الجنة التي ورد ذكرها في سفر التكوين من العهد القديم مما جعل بعض الباحثين يتجهون إلى افتراض أنّ كاتب سفر التكوين قد تأثّر بفكرة الجنة الديلمونية. وبالطبع فإنّ هذا التأثير -كما يقولون- لم يكن بالضرورة نتيجة نقل مباشر، أي بترجمة الاسطورة الديلمونية إلى اللغة العبرانية القديمة، وإنما يمكن القول بأنّه وجدها في تراث شعبه فأخذها واستفاد بها ونسج قصة عن معتقداته حول الجنة.
فإذا اضفنا إلى ذلك اشارة الأسطورة السومرية إلى خلق امرأة في هذه الأرض تتولى علاج ضلع رجل لأمكن القول أنّ التشابه بين الحكايتين لم يكن محض صدفة خاصة إذا كان اسم هذه المرأة واحداً في الحالتين، فهو مشتق من مادة الحياة، فالمرأة تدعى سيدة الحياة في القصة السومرية وحواء في سفر التكوين.
والواقع أنّه ليس وصف الجنة وعلاقة حواء بضلع الرجل هما الامران المتشابهان الوحيدان بين سمات الجنة في سفر التكوين وتلك الاساطير السومرية الأدم عهداً بألف عام على الأقل وإنما هناك عناصر كثيرة متشابهة بينهما، فمثلاً هناك النص في التراثين على أهمية اكتساب المعرفة، والتحدث عن سر الولادة والخلق، وسر الحياة والموت، وسبب الالم والمرض والشقاء، وخلق الانسان الأول من عنصرين ترابي والهي كما نجد ذكراً في الحالتين لرموز معينة مثل الشجرة المقدسة وألواح القدر، ودهاء الحية، ونعرف من أسطورة أدابا (آدم) السومرية وملحمة جلجامش مدى اهتمامها بالبحث عن الخلود، وكيف أصبحا قاب قوسين أو أدنى من الحصول عليه، ثمّ فقداه نتيجة للضعف البشري، تماماً كما حدث لآدم في الجنة، بالرغم من اختلاف الوقائع المحددة في التراثين.
ولعله ليس من قبيل الصدفة أن يحدد سفر التكوين موقع الجنة في مكان ما من بلاد الرافدين أو بالقرب منها، وأن يذكر من بين أنهارها دجلة (حدقل) والفرات، فقد جاء في سفر التكوين : 14:12
"ولقد أثبت السيد الرب جنة في ناحية الشرق من عدن ووضع فيها الانسان بعد ما خلقه، ومن الأرض أخرج السيد الرب كل شجرة تسر النظر وتكون صالحة للغذاء... ونهراً يخرج من عدن يروي الجنة ومن ثمّ يتجزأ في اربعة رؤوس فاسم الأول منها بيسون واسم النهر الثاني جيحون واسم النهر الثالث حدقل وهو الذي يجري نحو شرق آشور، والنهر الرابع هو الفرات".
ويقول الدكتور فاضل عبد الواحد علي المتخصص في حضارات ما بين النهرين أنّ كلمة عدن ربما جاءت من الكلمة السومرية Adinu ومعناها السهل أو الأرض السهلة وبالإضافة إلى هذا المدلول العام للكلمة فقد ظهر من النصوص السومرية التي انحدرت الينا من فجر عصر السلالات الثالث (في حدود 2450 ق.م.) أنّ كلمة عدن كانت تطلق بالتحديد على المناطق السهلة الواقعة جنوبي مدينة أوما (خوجة الحالية) غربي مدينة لكش، وهي المنطقة التي كانت سبباً في نزاع طويل بين هاتين المدينتين أوما ولكش. ثمّ نجد التوراة تفترض ضمنياً أنّ جنة عدن كانت تقع في جنوب وادي الرافدين أي في سومر.
وعلى ذلك يمكن القول بأنّ العبرانيين قد أخذوا اسم عدن ومكان وجودها في بلاد الرافدين عن الحضارة السومرية وربطوها بتصور الجنة الديلمونية دون أن يدركوا أنّ السومريين كانوا يتصورون وجود الجنة في جزيرة ديلمون بالتحديد، ومع ذلك فإنّ كلمة الفردوس التي تطلق أحياناً على الجنة يمكن أن تشير إلى موقع ديلمون بالتحديد.
إذ يقول العلامة جواد علي (المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام جـ1 ص 563 ) هناك نص بابلي يرجع إلى سنة 317 ق.م. وردت فيه عبارة "أرض رعيت برديسو" وتقابل هذه الكلمة كلمة Pildash أو Pardes بالعبرانية وفردوس بالعربية وتقع هذه الأرض في القسم الشرقي من جزيرة العرب بين ماجان (عمان الحالية) وبيت نبسانو (التي هي جزيرة ديلمون) وقد حملت هذه التسوية بعض العلماء على التفكير في أنّ ما ورد عن جنة عدن في التوراة إنما أريد به هذه المنطقة التي تقع في القسم الشرقي من جزيرة العرب وعلى سواحل الخليج.
ويوجد في المتحف البريطاني خاتم سومري يرجع تاريخه إلى منتصف الألف الثالث قبل الميلاد اشتهر منذ اكتشافه باسم "خاتم الاغراء" Seal of Temptation إذ إنه ينقل بصورة وافية جو الفردوس الذي ورد في التوراة فعناصر تصميمه تتألف من اله وشجرة وامرأة وحية جنباً إلى جنب، والشجرة محملة بالثمار، والحية تقف على ذنبها خلف المرأة وكأنها تهمس في أذنها. وقد اختلفت الآراء في هذا الخاتم فقال بعض المتحمسين من العلماء أنّه يمثل اشارة واضحة إلى قصة الاغواء التي تعرض لها آدم في الجنة، وقال آخرون أنّه لا ينبغي أن نحمّل الأثر أكثر مما يحتمل وإنّ التشابه بين محتوياته وعناصر قصة الاغواء الدينية ليس أكثر من مصادفة، ولكن ما يهم على أيّة حال هو أنّ هذا الخاتم يمثل مفهوم العراقي القديم للعصر الذهبي السحيق حيث كان يجتمع الآلهة والبشر تحت ظلال الأشجار وتشاركهم سعادتهم الطيور والوحوش دون عداء أو فزع، وهو نفس ما تمثله صورة ديلمون في اسطورة "انكي ونينخورساك" التي وردت في لوح امركار الذي أشرنا إليه فيما قبل، فهنا نجد أنّ الأسد لا يقتل، والذئب لا يفترس الحمل، والكلب لا يعقر، والخنزير لا يسطو على الغلة.
ونجد لهذه الصورة أيضاً انعكاساً في سفر أشعياء بالتوراة حيث نقرأ عن حالة السلم والطمأنينة بين الإنسان والحيوان ما يلي:
"فيسكن الذئب مع الخروف، ويربض النمر مع الجدي، والعجل والشبل والمسمّن معاً، وصبي صغير يسوقها، والبقروالدابة ترعيان، تربض أولادهما معاً، والأسد كالبقر يأكل تيناً، ويلعب الرضيع على درب الصل، ويمد الفطيم يده على حجر الافعوان...". (أشعياء 1:6-10)
الناجي من الطوفان يحيا في أرض الخلود
هذه النظرة إلى ديلمون باعتبارها الجنة أو الفردوس الأرضي جعلت سكان بلاد الرافدين القدماء يعدونها أيضاً "أرض الخلود"، ولذا كان من الطبيعي أن تجعلها الآلهة المكان الذي يقيم فيه الرجل الذي نجا من الطوفان بعد أن منحته الآلهة حق الخلود.
ولدينا نصان لأسطورة الطوفان أحدهما سومري وهو الأقدم بالطبع، والثاني بابلي آشوري مأخوذ عنه مع تغيير أسماء الأبطال والآلهة، والمعروف أنّ الحضارة البابلية الىشورية ورثت الكثير من ثقافة السومريين في اللغة والكتابة والأساطير والأدب والدين... إلخ.
وفي أسطورة الطوفان السومرية نقرأ:
تجمعت كل العواصف البالغة القوة وهاجمت كعاصفة واحدة...
وفي وقت واحد غطّى الفيضان مراكز العبادات
ولمدة سبعة أيام وسبع ليال
ظلّ الطوفان يجتاح كلّ الأرض
وأخذ القارب الكبير تتقاذفه العواصف فوق الأمواج العظيمة
وانبلج أوتو (إله الشمس) وألقى ضوءه على السماء والأرض
وفتح زيوسودرا نافذة القارب العظيم
ونثر البطل أوتو أشعته داخل السفينة الكبيرة
وتقدم زيوسودرا الملك
وركع أمام أوتو
وذبح ثوراً وغنماً
وبعد انقطاع في اللوح المسماري الذي يحوي الاسطورة يمضي النص فيصف مصير زيزسزدرا قائلاً:
تقدّم زيوسودرا الملك
فركع أمام آنو وانليل
وبارك آنو وانليل زيوسودرا
وأعطياه حياة تشبه حياة الآلهة
وهباه أنفاساً خادة كأنفاس إله
وعندئذ، زيوسودرا الملك
الذي حفظ اسماء النباتات وبذرة البشرية
جعلته الآلهة يعيش
في أرض ديلمون
أرض العبور
المكان الذي تشرق منه الشمس.
ففي هذا النص السومري من اسطورة الطوفان تذكر الأسطورة صراحة أرض ديلمون كمكان يعيش فيه زيوسودرا ملك سيبار الناجي من الطوفان، إذ لما كان زيوسودرا قد منح حياة خالدة جزاء لأنّه "حفظ أسماء النباتات وبذرة البشرية" لذا كان من الطبيعي أن يحيا في أرض الخلود لأنّ الفكرة المسبقة لدى السومريين عن ديلمون أنّها الجنة.
ولكن النص البابلي من أسطورة الطوفان، وهو الأحدث عهداً من النص السومري، لا يذكر ديلمون بالاسم كمكان يعيش فيه الناجي من الطوفان وهو أوتنابيشتيم الذي يعادل زيوسودرا في الاسطورة السومرية. ومن غير الواضح ما إذا كان عدم ذكر ديلمون في هذا المقام يعود إلى انقطاع في النص - إذ ان اللوح غير واضح بالفعل في هذا المكان- أو لأنّ البابليين لم يكونوا ينظرون إلى ديلمون كأرض جنة وخلود كما كان يفعل أسلافهم السومريون، خاصة أنّ هؤلاء -أي السومريين- كانوا ينفردون بأسطورة انكي ونينخورساك التي لا مقابل لها في الميثيولوجيا البابلية.
ومع ذلك فإنّ النص البابلي أيضاً يشير اشارات قوية إلى امكان أن تكون ديلمون هي المكان الذي التقى فيه جلجاميش مع أوتنابيشتيم الناجي من الطوفان، إذ في نهاية القصة عندما تعلن الآلهة رضاها عن أوتنابيشتيم وزوجته يباركهما كبير الآلهة انليل ويمنحهما الخلود كآلهة، ويجعلهما يعيشان "هناك بعيداً عند فم الأنهار" وإذا لاحظنا أنّ ديلمون تقع على الامتداد البحري لفم نهري دجلة والفرات (وغيرهما من أنهار الهضبة العيلامية) أمكننا المطابقة بين مكاني اقامة بطل الطوفان في الأسطورتين.
ولما كان النص البابلي هو الأوفى من حيث تفصيلات القصة فلا بدّ من استعراضه بشيء من الاسهاب في مقام البحث عن مركز ديلمون في الأساطير المسمارية.
ملحمة جلجاميش:
إنّ قصة الطوفان البابلية هي جزء من ملحمة جلجاميش الشهيرة وقد عُثر على هذه الملحمة في 12 لوحاً وجدت مطمورة في أطلال مكتبة آشور بانيبال في نينوى. وفي عام 1872 حلت رموز أحد هذه الألواح، وهو اللوح رقم 11، فوجد أنّه يحتوي على قصة طوفان عظيم تعرضت له البشرية بأسرارها ونجا منه فرد واحد وعائلته وما أخذه معه من نباتات وحيوانات وأدّى هذا الاكتشاف إلى إثارة اهتمام بالغ في العالم وفي الدوائر الدينية والأكاديمية على وجه الخصوص نظراً للتشابه الكبير بين هذه الأسطورة وقصة الطوفان التي وردت في الكتب المقدسة.
ولحسن الحظ فإنّ اللوح الحادي عشر من ملحمة جلجامش كان أحسن الواح الملحمة الاثني عشر حفظاً مما أعطانا تفاصيل كثيرة عن قصة الطوفان كما حكاها أوتنابيشتيم والطريق الذي سلكه جلجامش كي يلتقي به. وتصور الأسطورة جلجاميش ملك اريك (الوركاء) على أنّه حفيد أوتنابيشتيم الناجي من الطوفان، وبعد أن تقص الأسطورة حياة جلجاميش ومغامراته وتصور مدى انزعاجه لوفاة صديقه انكيدو وادراكه أنّ الموت لا محالة طائله هو أيضاً، تحكي لنا القصة أنّ جلجاميش قرر الانطلاق للبحث عن جده اوتنابيشتيم الرجل الوحيد الذي كافأته الآلهة بالخلود جزاء تقواه وانقاذ بذرة البشرية من الطوفان، وذلك على أمل أن يعرف منه سرّ الخلود.
وفي بداية رحلة البحث عن أوتنابيشتيم يصل جلجامش إلى سفح سلسلة جبلية هي جبال ماشو. وكان يحرس مدخل هذه السلسلة من الجبال "رجل –عقرب" وزوجته. ويحذره الرجل العقرب بأنّ أي انسان حي لم يستطع أن يجتاز هذه الجبال ويقاوم أخطارها، ولكن أمام اصرار جلجاميش على مغامرته يسمح له الحارس بالمرور، ويتبع جلجاميش في رحلته الطريق الذي تسلكه الشمس، وبعد أخطار مخيفة يصل إلى شاطئ بحر الموت، وهناك يجد حارساً آخر في شكل امرأة صاحبة حانة جعة تدعى الربة سيدوري، وتحاول بدورها أن تثنيه عن محاولة عبور بحر الموت، وتخبره أنّ أحداً غير الإله شمس لا يمكنه عبور ذلك النهر، وتنصحه بأن يتمتع بالحياة طالما أنّه لا يزال على قيدها، فالموت مقدّر من الآلهة على البشر ولا يستطيع أحد أن ينجو من هذا المصير، وتقول له ألاّ يحاول البحث عن المستحيل وأن يقنع بأن يملأ معدته بأشهى الطعام وأن يبهج نفسه ليلاً ونهاراً:
عليك أن تجعل من كل يوم حفلاً للابتهاج
عليك أن ترقص وتلعب ليلاً ونهاراً
فلترتدي أجمل الثياب وأنظفها
فلتغتسل وتستحم في الماء
ولتبحث عن امرأة تحبها وتحبك
فتمنحها حمايتك وتجعلها تبتهج تحت جناحك
فهذا هو الممكن لابناء البشر
ولكن البطل جلجاميش يرفض أن يأخذ بنصيحة سيدوري حاملة جرة النبيذ، فيتركها ويمضي في طريقه، ولدى الشاطئ يلتقي مع أورشانبي الملاح الذي كان يقود سفينة أوتنابيشتيم ويأمره أن يعبر به مياه الموت، ويحاول أورشانبي بدوره أن ينصحه ويثنيه، ثمّ أمام اصراره يخبره عن الطريقة التي يمكن أن ينجو بها من المياه القاتلة، وهي أن يصنع طوفاً من خشب الأشجار ينقله إلى وجهته في المرحلة الأخيرة من رحلته تلك المحفوفة بالمخاطر والهلاك.
وما أن يلتقي جلجاميش مع أوتنابيشتيم حتى يطلب منه فوراً أن يبلغه بسر الخلود، وماذا فعل كي ينال هذا الامتياز الفريد، فيشرع الشيخ الطاعن في السن أوتنابيشتيم يقص على مسامع جلجاميش قصة الطوفان، وكيف أنّ الىلهة قررت تدمير البشرية لأنها تصدر ضوضاء مزعجة. ولكن انكي اله المياه الجوفية (الذي راينا صلته بدلمون) يحذر أوتنابيشتيم بما أضمرته الىلهة ويبلغه بأن يبني فلكاً بأوصاف ومقاسات معينة وأن يصطحب معه أسرته وحيواناته، وعلى حين غرّة بدأ الطوفان بالفعل بمياه تسقط من السماء وتنبثق من الأرض، ولمدة ستة ايام وليال هبت العاصفة، وعلا الموج، وفي اليوم السابع أطلق أوتنا بيشتيم حمامة وعصفوراً تباعاً ولكنهما عادا إلى الفلك فعلم أنهما لم يعثرا على ارض صلبة، وبعد ذلك أطلق غراباً فلم يعد، فعلم أنّ الماء قد غاص، ورسى الفلك على قمة جبل نيسير (في شمال كردستان) عندئذ فتح أوتنابيشتيم نوافذ الفلك وقدّم الاضحيات للىلهة، وتدخل انكي لدى انليل كبير الآلهة طالباً منه ألاّ يعاقب كل البشر بخطايا البعض منهم، فلا تذر وازرة وزر أخرى، فوافق انليل على ذلك وتعهد به، ثمّ دخل انليل الفلك ولمس أوتنابيشتيم وزوجته في جبهتهما، وقال:
منذ الآن سيكون أوتنابيشتيم خالداً
منذ الآن هو وزوجته سيكونان مثل الآلهة
ويعيشان هناك بعيداً عند فم الأنهار
ولا يذكر النص البابلي كما أسلفنا مكان التقاء جلجاميش وأوتنابيشتيم بالتحديد، وهو المكان الذي اتخذ مقراً للرجل الخالد، واكتفى بأن أشار اليه بعبارة "هناك بعيداً عند فم الأنهار". ولكن كان واضحاً لدى العلماء ان هذا النص البابلي لابد أن يكون كغيره من النصوص البابلية والآشورية التي عثر عليها في مكتبة آشور بانيبال منقولاً عن نص أقدم عهداً لم يكتشف بعد. ومرت أربعون سنة اخرى قبل أن يكتشف هذا النص الاصلي، وعندئذ اتضحت العلاقة الوثيقة بين قصة الطوفان ودلمون.
ففيما بين عامي 1899 و 1900 كانت بعثة اثرية من جامعة بنسلفانيا الأمريكية تجري تنقيبات في نيبور، وهي من أشهر المراكز الحضارية القديمة بأسفل بلاد ما بين النهرين وكانت في زمن السومريين وعهد سرجون الاكادي فيما بعد مركزاً لعبادة الإله انليل كبير الآلهة أو الأول بين الآلهة وهو بالتحديد الاله الذي دبّر الطوفان ومنح الخلود لأوتنابيشتيم في النهاية، وكشفت التنقيبات عن أول زاقورة مدرجة يعثر عليها في بلاد ما بين النهرين، والمعروف أنّه كان لكل مدينة سومرية زاقورة واحدة فحسب، وعثر بأعلى الزاقورة على معبد صغير، وفي أسفلها على أطلال المعبد الرئيسي لانليل، وبين هذه الأطلال عثر هيليريخت رئيس البعثة وكان حجة في الكتابة السومرية على أرشيف المعبد ويحوي حوالي 35 ألف لوح سومري وهي كمية تفوق ما عثر عليه من موجودات في مكتبة الملك الىشوري آشور بانيبال من القرن السابع قبل الميلاد.
وكانت معظم هذه الألواح مكتوبة بالقلم السومري الذي سبق الكتابة البابلية السامية في بلاد ما بين النهرين، ويرجع إلى هذا الاكتشاف الفضل في تحسين معرفة العلماء باللغة السومرية. وقد ظلّ العلماء عاكفين على حلّ رموز هذا الكنز من الكتابات المسمارية سنين طويلة، وفي عام 1914 فكت طلاسم أحد الألواح فغذا به يحتوي على جزء من نص قصة الطوفان التي سبقت معرفتها من اللوح البابلي.
ولكن اللوح كان مطموساً في معظمه للأسف، فلم يكن سليماً منه سوى ثلثه الأسفل وثمّة ثغرات في هذا الثلث أيضاً، غير أنّ ما تبقى من النص كان كافياً كي يوضح أننا بصدد نفس القصة التي قصها أوتنابيشتيم على جلجاميش فيما عدا أنّ الراوي في النص السومري يدعى زيوسودرا، ولحسن الحظ فإنّ الجزء الباقي الواضح من النص يحمل معلومات جديدة في غاية الأهمية، إذ بينما نجد أنّ النص الآشوري البابلي لا يحدد مكان إقامة أوتنابشتيم حيث التقى به جلجاميش نجد أنّ النص السومري يقول:
وعندئذ زيوسودرا الملك
الذي حفظ أسماء النباتات وبذرة البشرية
جعلته الآلهة يعيش
في أرض دلمون
أرض العبور
المكان الذي تشرق منه الشمس
والعبارتان الأخيرتان اللتان تصفان دلمون بأنّها "أرض العبور" و "المكان الذي تشرق منه الشمس" تستحقان وقفة تأمل، فإنّ تعبير "أرض العبور" غير واضح وهي ترجمة حرفية عن الأصل السومري "كور- بالا" وكلمة "كور" معناها في السومرية "أرض" أو "بلاد"، أمّا كلمة "بالا" فهو اسم فعل مشتق من فعل "يعبر" ويستخدم بصفة خاصة للدلالة على عبور الأنهار، وهذا يذكرنا على الفور بالتعبير الذي ورد في النص البابلي عن مكان اقامة أوتنابيشتيم "هناك بعيداً عند فم الأنهار".
أمّا تعبير "المكان الذي تشرق منه الشمس" فهو لا يقل غموضاً، وكثيراً ما استخدم -كما يقول جيوفري بيبي- كحجة لنفي أنّ ديلمون هي البحرين، إذ أنّ البحرين تقع إلى الجنوب من نيبور بينما "المكان الذي تشرق من الشمس" لا بدّ بالضرورة أن يكون في اتجاه الشرق. غير أنّ هذه الحجة كما يقول بيبي لا تصمد كثيراً إذا عرفنا أنّ البابليين ومن قبلهم السومريين كانوا يطلقون على الخليج العربي ثلاثة مسميات هي "البحر الأسفل" و "البحر المر" و "بحر الشمس المشرقة"، ومن الطبيعي تماماً بالنسبة لهم أن يسموا أي مكان فيه بالمكان الذي تشرق منه الشمس.
وباكتشاف هذا النص اكتسبت ديلمون أهمية بالغة لم تكن لها بمقتفى النص الآشوري البابلي إذ أنها اصبحت المكان الذي يعيش فيه خالداً الرجل الذي نجا من الطوفان، وإليها لا بدّ أن يكون قد سعى جلجاميش للقاء هذا الرجل.
ولكن لماذا جعلت الآلهة زيوسودرا بالسومرية، أو سرخاكيس بالأكاديّة، أو أوتنابيشتيم بالبابلية والىشورية يعيش في دلمون؟ إنّ الفلك لم يرس فيها بالتأكيد بل رسا حسب الاسطورة في الجبال الواقعة إلى الشمال من بلاد ما بين النهرين فما الذي أتى به جنوباً إلى ديلمون؟
الرد على ذلك واضح وسهل تماماً... إنّ الناجي من الطوفان الممنوح حياة خالدة لا بدّ أن يعيش في أرض الخلود التي لا يعرف فيها موت ولا مرض، أي ديلمون حسب ما عرفنا من أسطورة انكي ونينخورساك.
زهرة الخلود
عثرت البعثة الدنماركية الأثرية برئاسة جيوفري بيبي عند أقصى الطرف الجنوبي لجزيرة المنامة - كبرى جزر البحرين- على آثار قرية صغيرة تتميز بوجود أكوام كبيرة من المحار الفارغ فيها، ثبت أنها جميعاً من محارات اللؤلؤ. وتفصل المنطقة التي تقع فيها هذه القرية عن الصحراء الجنوبية للمنامة سبخة كبيرة يتعذر السير فيها مما يشير إلى أنّ المنطقة التي عثر فيها على محار اللؤلؤ الفارغ كانت في الأصل جزيرة منفصلة مجاورة للشاطئ، ثمّ حدث الاتصال بينهما لأسباب طبيعية.
ويرى جيوفري بيبي في كتابه "البحث عن ديلمون" أنّ هذا المكان لا بدّ أنّه كان في الأصل مستعمرة للغواصين القدامى، وأنّهم ينشرون فيه صيدهم من المحار حتى يجف في الشمس ويموت الحيوان بداخله ويفتح المحار فيجمعونه ويبحثون بداخله عن حبات اللؤلؤ الثمينة.
وهذه طريقة قديمة في صيد اللؤلؤ وهي معروفة في أماكن مختلفة من العالم ولكنها ليست متبعة في الخليج الحديث، إذ أنّ الغواصين العرب في العصور الحديثة كانوا لا يبرحون ظهر مراكبهم، وبعد أن يحصلوا على اللؤلؤ يلقون بالمحارات الفارغة في البحر مرّة أخرى.
ولذا فإنّ هذه المستعمرة لصيادي اللؤلؤ لا بدّ أن تكون أقدّم عهداً من الأسلوب امتبع حديثاً، مما يدل على أنّ صيد اللؤلؤ في البحرين كان حرفة قديمة جداً. وقد تبين لبيبي بالفعل أنّ هذه المستعمرة يعود زمنها إلى الألف الثالث قبل الميلاد نظراً لتماثل الفخار الذي عُثر عليه فيها مع الفخار الذ عُثر عليه في معبد باربار، وهكذا يمكن القول باطمئنان أنّ البحث عن الؤلؤ كان معروفاً في البحرين خلال عصور اسومريين والبابليين السحيقة.
والمعروف أنّه وردت في النصوص المسمارية التي عُثر عليها في أور اشارات إلى استيراد "عين السمكة" من دلمون، وهو تعبير يفسره العلماء بأنّه يعني اللؤلؤ.
وهذا يذكرنا مرّة أخرى بملحمة جلجاميش...
ففي النص البابلي لملحمة جلجاميش نرى أنّه بعد أن يصل البطل جلجاميش في بحثه عن الخلود إلى المكان الذي يعيش فيه أوتنابيشتيم- والذي تبين لنا أنّه ديلمون من النص السومري الناقص- وبعد أن يقص عليه أوتنابيشتيم قصة الطوفان يبلغه بأنّ ليس في إمكانه تحقيق الخلود، ولكن باستطاعته أن يجد تعويضاً جزئياً عن بغيته في "زهرة الشباب"، فهذه الزهرة يمكنها أن تجدد الشباب ولكن المشكلة تكمن في صعوبة الحصول عليها. وفي اللوح الثاني عشر والأخير من الملحمة يسر أوتنابيشتيم لجلجاميش بسر زهرة الخلود هذه، فيبلغه أنها موجودة في قاع البحر أو ربما على وجه التحديد في المياه العذبة "الابسو" الذي تحت سطح الماء المالح، وكان على جلجاميش كي يصل إليها أن يربط أحجاراً في قدميه ويغوص إلى قاع البحر حيث يقطف الزهرة السحرية. ثمً يتخلص من الأحجار المربوطة بقدميه فيطفو مرة أخرى إلى السطح.
هذا النص يثير اهتماماً خاصاً لأنّ الطريقة التي اتبعها جلجاميش للحصول على هذه الزهرة السحرية هي نفس الطريقة التي كان يستخدمها غواصو اللؤلؤ المعاصرون أي بربط الأثقال في أقدامهم، وعلى ذلك فالشكّ يكاد يكون معدوماً في أن يكون المقصود بزهرة الخلود إنما هو اللؤلؤ.
ومن المثير أن نلاحظ أنّ ثمة تقليداً كان شائعاً في مصر القديمة يعتبر اللؤلؤ اكسيراً للشباب والحياة الدائمة، إذ يقال أنّ الملكة البطلمية كليوبترا كانت تشرب اللؤلؤ مذاباً في النبيذ لتحافظ على ما تتمتع به من شباب وسحر وجاذبية.
وهكذا يبدو أنّ جلجاميش قد كوفئ في النهاية بما يعوضه عن مغامراته الشاقة ورحلاته المهولة، ففي دلمون أرض الخلود عثر على الزهرة السحرية التي تمد العمر وتجدد الشباب، وإذا كان الخلود نفسه من حق الآلهة ووقفاً عليهم دون غيرهم من بني البشر فإنّ تجديد الشباب يبدو على الأقل أقصى ما يمكن لانسان أن يطمح إليه. ولكن قصة جلجاميش لا تنتهي للأسف بهذه النهاية المنطقية السعيدة. فنرى أنّ جلجاميش بعد أن يفعل كل ما أوصاه به أوتنابيشتيم ويحصل على الزهرة يتردد في أكلها ويقرر أن يستبقيها ويأخذها معه إلى وطنه كي يقتسمها مع كبار أهل مدينته أورك (الوركاء) حتّى يتمتعوا جميعاً بالحياة الشابة المتجددة. ولكنه إذ يغفو إلى جانب غدير ليحصل على شيء من الاحة تخرج الحية من ثغرة في الماء وتأكل زهرة الخلود وبذلك تحرم الإنسان من فرصة الشباب الدائم وتحصل هي عليه، ألسنا نرى الحية تتخلص من جلدها القديم كلّها هرمت وتستبدل به جلداً جديداً وشباباً دائماً؟
وهذا يذكرنا مرة أخرى بالعهد القديم حين حرمت الحية الجنس البشري من فرصة الخلود والشباب الدائم في جنة عدن. وكانت سبباً في طرد الجنس البشري إلى حيث الشقاء والفناء.
وهنا تنتهي جلجاميش، والعبرة فيها واضحة: إذا كان الانسان لا يستطيع حتى أن يقاوم مجرد النوم فكيف به يأم أن يقاوم الموت؟
دلمون... وأصل السومريين
تلخيصاً لما سبق نقول أنّ سكان بلاد ما بين النهرين القدماء كانوا ينظرون إلى دلمون التي بثت أنها البحرين الحديثة نظرة مقدسة. والسومريون بالذات وهم أقدم صناع الحضارة في جنوب الرافدين كانوا يعدون دلمون الجنة أو الفردوس المفقود حيث يوجد النقاء والطهارة والنظافة وحيث السلام الأبدي يعم المخلوقات جميعاً من بشر ووحوش وطيور، وحيث لا مرض ولا موت ولا تقدم في العمر، فلا حاجة بالغادة أن تستحم لأنها نظيفة دائماً وكا ما حولها نظيف وطاهر. ولا تراق المياه المتلألئة على الأرض في الاستخدامات اليومية المعهودة لأنّ هذه المياه مقدسة تستخدم في الأغراض المقدسة وحدها (كما ثبت من حفائر معبد باربار) وهذه المياه العذبة أوجدها انكي اله المياه الجوفية بطلب من نينخورساك ربة الأرض كي تتحول ديلمون إلى جنة وارقة الظلال تكسوها النباتات، أو بكلمة واحدة كان السومريون يعتقدون أنّ الآلهة باركت ديلمون ووهبتها المياه العذبة والنباتات والصحة والشباب الخالد، ويبدو أنّ هذا التصور كان له تأثير قوي على فكرة الجنة أو الفردوس في العهد القديم. ولذا كان من المنطقي عندما أنقذ انكي زيوسودرا من الطوفان، ومحه انليل الخلود، أن تجعله الآلهة يعيش في المكان الذي لا يعرف الموت، أي في ديلمون، ولا بدّ أن يكون جلجاميش قد سعى إليها في بحثه عن الخلود متجشماً الأهوال والمشاق، ومتخطياً عقبات مستحيلة، وهناك التقى بالرجل الناجي من الطوفان، وسمع منه أسرار الآلهة، وقصة الطوفان العظيم الذي دمّر البشرية، وهناك أيضاً غاص جلجاميش في أعماق مياه ديلمون كي يحصل زهرة تجديد الحياة أو اكسير الشباب الدائم غير أنّ الحية عدوة الجنس البشري منذ الأزل وتحرمه هذه الفرصة الفريدة.
كانت هذه هي نظرة السومريين بالذات إلى دلمون كما تقول أساطيرهم صراحة، ولكن يبدو أنّ هذه النظرة قد اهتزت قليلاً لدى البابليين وغيرهم من الاقوام السامية التي ورثت ثقافة السومريين وحضارتهم ومنازلهم، ودليلنا على ذلك أنّ الأسطورة السومرية عن انكي ونينخورساك التي تذكر ديلمون كأرض مطهرة نقية لا وجود لها أو لما يماثلها في الأدب الاسطوري السامي اللهم فيما عدا تسرب فكرة الجنة مجردة إلى الأدب العبراني وغيره من الآداب السامية دون أن تحدد هذه الآداب الجنة بديلمون كما كان يفعل السومريين.
وهناك دليل آخر على اهتزاز صورة ديلمون كأرض مقدسة في نظر البابليين يتمثل في عدم ذكرها صراحة باعتبارها المكان الذي يقيم فيه أوتنابيشتيم الذي كافأته الآلهة بالخلود لانقاذ البشرية من الطوفان، فالنص البابلي الذي ورد في ملحمة جلجاميش يكتفي بالقول بأنّ الآلهة كافأت أوتنابيشتيم بالخلود وجعلته يعيش بعيداً هناك عند فم الأنهار ولولا أننا نعلم من شظية سومرية أن جلجاميش سعى إلى ديلمون بالتحديد للقاء زيوسودرا، بطل الطوفان السومري، لظل المكان الذي يقيم فيه نظير أوتنابيشتيم مجهولاً.
ويبدو أنّ تعامل البابليين والآشوريين الكثيف مع ديلمون في مجال التجارة والرحلات البحرية قد قلّل من النظرة المقدسة إلى هذا البلد، فالألفة تقلل من مشاعر التقديس والتكريم بل والاحترام بين البشر، غيلا أنّ هذا التعليل غير كاف لتفسير ديلمون لدى السومريين، وقد كان هؤلاء يتعاملون أيضاً مع ديلمون في شؤون التجارة والملاحة وغير ذلك من جالات الحياة كما هو ثابت من النصوص السومرية، فلماذا لم تقلل هذه العلاقات من نظرتهم التقديسية إلى ديلمون؟ ولماذا اختار السومرون ديلمون بالذات لينظروا إليها هذه النظرة ؟
هذا سؤال لا بدّ أن يثور في ختام بحث عن مكانة دلمون في الأساطير السومرية خاصة إذا علمنا أنّ السومريين قوم غرباء اصلاً عن المنطقة. إنّهم بكل تأكيد لا ينتمون إلى الارومة الجنسية السامية الأساسية في منطقة الشرق الأدنى القديم، ولكن تختلف آراء العلماء اختلافاً بيناً في تحديد اصلهم والمكان الذي جاءوا منه، غير أنّهم بكل تأكيد أيضاً كانوا قوماً متحضرين منذ أول مجيئهم، فقد أحدثوا قفزة حضارية نوعية بالنسبة لنمط الحضارة الذي كان سائداً في منطقة الرافدين قبل حضورهم، ذلك النمط الذي تمثله حضارات ما قبل التاريخ المعروفة في تلك المنطقة.
إنّ هناك أدلة لها قيمتها تفيد أنّ السومريين جاءوا إلى منطقة ما بين النهرين حوالي عام 3300 ق.م. قادمين من دلمون فإنّ أساطيرهم تذكر أنّ جدهم الأكبر جاء من دلمون وانهم نزحوا من هناك بعد طوفان، ومن غير الواضح ما إذا كانوا يعتبرون أنّ ديلمون هي موطنهم الأصلي أم انها كانت محطة على الطريق استقروا فيها مؤقتاً قبل نزوحهم الجديد إلى الشمال. ومن الثابت أنّ البحرين كانت بالفعل محطة مهمة تنزل فيها الاقوام المهاجرة إلى الشمال، فالكلدانيون جاءوا إلى بابل من المنطقة العربية الشرقية على ساحل الخليج في أواخر الألف الثانية قبل الميلاد مروراً بديلمون، ويقول هيردوت أنّ الفينيقيين فعلوا نفس الشيء وان مقابر البحرين الشهيرة فينيقية، فليس ما يمنع منطقياً أن يكون السومريون قبل هؤلاء جميعاً قد استقروا في ديلمون حيث عرفوا السعة والطمأنينة ورغد العيش قبل أن تستجد ظروف أخرى دفعتهم إلى الهجرة إلى بلاد الرافدين.
وهذا الاحتمال يفسر دون شك تلك النظرة المقدسة التي ظلوا ينظرونها إلى دلمون، فالإنسان يحن إلى موطنه الأول وينظر إلى طفولته كعصر ذهبي ولّى ولن يعود وكذلك الأقوام والجماعات في عقلها الباطن الجماعي تنظر إلى عهدها الأول مثوى عظام الآباء والأجداد نظرة يملأها التقديس والاكبار، وتحلم بأيام هذا الموطن باعتبارها عصراً ذهبياً يختلف عن الواقع المعاش.
ومما له دلالة خاصة في هذا الصدد أن بعض الأساطير السومرية تذكر أنّ انكي هو صانع الانسان وأنّه فرض أن تكون ديلمون هي دار الندوة أو مجمع الآلهة لجميع البلاد السومرية. ومن المحتمل أنّ انكي كان في الأصل إلهاً محلياً في ديلمون قبل أن ينتقل إلى سومر، وبعض العلماء يتصورون أنّ اسطورة انكي ونينخورساك التي تفسر أصل النباتات نشأت أصلاً في دلمون ثمّ انتقلت غلى بلاد ما بين النهرين، وهناك شواهد كثيرة على أنّ السومريين والبابليين (تأثراً بهم من بعدهم) كانوا يعتقدون أنّه في فجر الزمن كانت الآلهة تقضي معظم أيامها في دلمون، كلّ ذلك من شأنه أن يعزز الاعتقاد بأن يكون السومريون قد توقفوا في البحرين وأقاموا بها زمناً وهم في طريقهم من موطنهم الاصلي المجهول إلى وادي ارافدين، وربما كان هذا الموطن بالتحديد هو اقليم وادي نهر الأندوس حيث ازدهرت حضارة هارابا وموهانجو دارو، وعلى أي الأحوال كانت الفترة التي قضوها في دلمون كافية لأن تظل حية في ذاكرتهم بمياهها العذبة، وأشجارها الوارقة، كذكرى جنة قديمة أو فردوس مفقود
حضارة قديمة في الخليج العربي
في البداية لمحة بسيطة عن حضارة دلمون من كتاب قصة وتاريخ الحضارات العربية (بين الأمس واليوم) (الكويت والبحرين)...
*******
حضارة دلمون
دلمون هي مملكة صغيرة نشأت في أوائل الألف الثالث قبل الميلاد واستمرت حوالي 3 آلاف سنة وكانت تتألف من جزيرة دلمون (أي البحرين اليوم) ومن المنطقة الشرقية من المملكة السعودية اليوم. أمّا سكّانها فكانوا من الساميين.
وكان سكّان دلمون يدفنون الأموات من محاربيهم في آكام من الصخور تسمى "طعوسا". ولا تزال هذه الآكام صامدة حتّى يومنا هذا، تضفي على البلد رونقاً خاصاً إذ يتراوح ارتفاعها من 4 إلى 9 أقدام وقطرها من 10 إلى 24 قدماً عند القاعدة. ويظن بعض الباحثين أنّ البحرين تضم أكبر مقبرة في العالم كلّه.
الثروة المائية:
كانت هذه المنطقة منذ القدم محط إعجاب ودهشة بسبب المياه الوفيرة التي تتدفّق في جنباتها. لذلك نرى في الجزء الشمالي من الجزيرة حدائق غنّاء تتوق العين إلى التمتع بروعتها وسحرها. وكان الأقدمون يعتبرون هذه المياه مقدسة، لا بل هدية من السماء بسبب ندرتها في هذه البقعة من العالم حيث تشتد حرارة الشمس والقيظ.
دلمون والسومريون:
قدم السومرون إلى وادي الرافدين قبل 3000 سنة من الميلاد وأقاموا في تلك المنطقة. أما ماضي هذا الشعب ووطنه الأم فهما أمران لا يزالان مجهولين حتى اليوم. غير أنّ أساطيرهم تأتي على ذكر مكان يُدعى دلمون غني بالمياه العذبة ويعبد سكانه الالهين انكي ونينخورساك. ويبيّن أقدم نص تاريخي ذكرت فيه دلمون كُتب حوالي (2500 ق.م) أنّ هذه المنطقة كانت لها علاقات تجارية وثيقة مع الولاية السومرية لاغاش التي كانت ترسل إليها التمر والنحاس والخام.
دلمون والأكاديين:
حوالي سنة 2360 ق.م. قام ملك يدعر سرجون الأكادي بموجة من الفتوحات فسيطر على الدويلات السومرية ووصل إلى عيلام وسوريا والجزيرة الواقعة جنوب البحر الواطئ ومن ثمّ دلمون. غير أنّ دلمون عادت واستعادت حرّيتها واستقلالها بعد فترة وجيزة. ولكن فترة الاستقلال هذه لم تدم طويلاً إذ عاد ملك أكادي آخر واحتلها.
دلمون والبابليون:
مع نهاية الألف الثالث قبل الميلاد بدأ الأكاديون يتضاعفون تدريجياً لتحل مكانهم امبراطورية أخرى تعود إلى البابليين. وتدل الوثائق إلى أنّ دلمون كانت تحت سيطرتهم منذ 1987 ق.م. وظلّ البابليون يبسطون نفوذهم على هذه المنطقة حتّى سنة 1260 ق.م. عندما بدأ الآشوريون يطالبون بالسيطرة على دلمون.
دلمون والآشوريون:
منذ القرن الثامن قبل الميلاد راح الآشوريون يلجأون إلى القوة والقمع للاستيلاء على البلاد المجاورة. وقد دفعت هذه السياسة عدداً كبيراً من الدول إمّا إلى الاستسلام أو إلى الحرب. ويعني هذا الحل الأخير الدمار والقتل. وساهم في نجاح الآشوريين الجيش الذي أحسنوا إعداده وتدريبه.ولم يختلف مصير دلمون عن مصير غيرها من الدول فأراد سرجون الآشوري (722-705 ق.م)، وهو يعشق التمثّل بالزعيم الأكادي الذي يحمل اسمه، أن يسيطر على دلمون كما فعل سرجون الأكادي. ولم تسقط دلمون بين أيدي الآشوريين غلاّ على عهد آشور بانيبال. غير أنّه حوالي سنة 605 ق.م. سقطت الامبراطورية الآشورية فتحررت شعوب المنطقة كلّها من هذا المستعمر المتعطش للدماء.
أسطورة دلمون:
في الأزمان الغابرة منحت جزيرة دلمون إلى الالهين انكي (سيد الأرض ومصدر الذكاء والفهم والاخصاب وهو يمثّل القوّة الممكنة في الماء) ونينهر ساجا (الأرض الأم) ليتقاسماها.
واستجابة لطلب نينهر ساجا، دفق انكي بالمياه على دلمون. ومن ثمّ تودّد إلى نينهر ساجا وطلب يدها. فقبلت هذه الأخيرة بعد تردّد بسيط. وتأتي ثمرة هذا الزواج إلهة النبات نينار. غير أنّ انكي لم يمكث بالقرب من نينهر ساجا، بل ظلّ يطوف في الجزيرة سائلاً رقراقاً. ومع نهاية فصل الربيع توجه إلى حافة النهر حيث رأى للمرة الأولى نينار بعد أن تحوّلت إلى شابة نظرة، لا سيّما وأن النباتات تتكاثر وتخضر على ضفة النهر في ذلك الوقت. فأعجب بها وأغواها فأنجب إلهة الخيوط الليفية. وهكذا راحت تتكرّر هذه الحكاية فولدت إلهة الصباغة التي أنجبت اوتو إلهة الثياب والنسيج.
وعند هذه النقطة تحاول نينهر ساجا أن تنبه أوتو من امكي، غير أنها لم تستمع لتحذيره بل سقطت سكرى بين يدي حبيبها الذي غمرها بالهدايا.
ثمّ قام انكي بابتلاع ثمانية من الآلهة مما أثار غضب نينهر ساجا التي لعنته فوراً. فمرض انكي وتكدست المياه في باطن الأرض وراحت الحياة تذبل شيئاً فشيئاً. فتدخلت الآلهة طالبة من نينهر ساجا أن ترحم انكي وتشفق عليه. فتستجيب نينهر ساجا للطلب وتساعد انكي على الشفاء وينجبان ثمانية آلهة هي نفسها التي ابتلعها... فتعود الحياة إلى التدفق والجريان.
دلمون: في الأساطير السومرية والبابلية
لم يكن الربط بين اسم دلمون القديمة والبحرين الحديثة أمراً سهلاً..حقاً لقد عرف علماء الآشوريات في القرن الماضي أنّ هناك مكاناً يسمى دلمون يتمتع بأهمية خاصة في الأساطير السومرية والبابلية القديمة وفي التاريخ السياسي لشعوب ما بين النهرين إلى حد ما، ولكن ما حقيقة هذا الاسم، هل هو مكان اسطوري أم مكان حقيقي؟ وإذا كان مكاناً حقيقياً كما هو الأرجح فأين يقع؟ إنّ أقصى ما كانت تفيده الوثائق القديمة أنّ دلمون مملكة تقع إلى الجنوب من بابل.
ولم يهتم علماء الآشوريات في القرن الماضي اهتماماً جدياً بالبحث عن مكان دلمون أو التحقق من وجودها. فقد كانت هذه المسألة تبدو لهم ذات أهمية ثانوية بالنسبة للمسائل الخطيرة الأخرى التي بدأت تثيرها الاكتشافات الرائعة المتوالية في بلاد ما بين النهرين والتي جعلت أذهان العلماء تنصرف تماماً إلى اكتشاف تلك الحضارات القديمة التي قامت تباعاً في المنطقة وكانت إلى جانب الحضارة المصرية المزدهرة على ضفاف النيل بمثابة لبنات الأساس للتاريخ العالمي كله، فلماذا يشغل هؤلاء العلماء أنفسهم إذن بالبحث عن حقيقة اسم ورد بصفة عابرة في بعض النقوش أو السجلات الثانوية في الوقت الذي تنتظرهم تلال من الوثائق المكتشفة في حاجة إلى البحث والتفسير والتحميص؟
وهكذا ظلت حقيقة دلمون مجهولة على الرغم من معرفة اسمها بالفعل، وعندما ربط العلماء بين دلمون والبحرين كان ذلك في حد ذاته اكتشافاً مثيراً أسبه بفك غوامض لغز مثير في علم الآثار، وعوضهم الكشف الجديد بأثمن مما بذل فيه من جهد، إذ أنهم انتشلوا حضارة ضائعة ظلت حوالي ألفي عام على أقل تقدير واحدة من أروع حضارات العالم القديم.
دلمون في النقوش القديمة:
ولكن قبل أن نصل إلى هذه القصة لابد من إشارة سريعة إلى بعض النقوش البابلية والآشورية التي ورد بها اسم دلمون والتي كانت بمثابة علامات الطريق في التقدم نحو هذا الكشف المثير.
في عام 1861 اكتشف العلماء في أطلال قصر الملك آشور بانيبال الذي حكم مملكة آشور في القرن السابع قبل الميلاد مكتبة سليمة تضم آلافاً من الألواح الطينية المكتوبة بالخط المسماري. كانت المكتبة تحتوي ثروة ضخمة من المعلومات في مختلف الميادين منها قوائم بأسماء المدن وأقاليم وآلهة، وأجزاء من قصائد وأساطير، وقواميس تحوي كلمات متقابلة بلغات مختلفة مع شرح لمعناها وطريقة نطقها، وبعضها مكتوب بلغات أجنبية مع ترجمة لها إلى اللغة الآشورية أو بدونها، وبعضها الآخر بلغات أكثر قدماً من اللغة الآشورية كالبابلية القديمة والسومية الأقدم عهداً، وقدر عدد هذه الألواح بين سليم ومكسور بنحو 25 ألف لوح. وأودعت هذه الألواح جميعاً في المتحف البريطاني بلندن لتكون ذخيرة لأبحاث تستغرق سنوات وسنوات من جانب علماء اللغات الشرقية القديمة.
وكان من أوائل الذين عكفوا على دراسة هذه الألواح وفك رموزها العالم البريطاني راولنسون الذي قام بتصنيفها واختار منها بعض الكتابات تولّى نشرها تباعاً في مجموعات متتالية. وقد ورد اسم دلمون مرتين في المجموعة الثانية من مجموعات راولنسون، ومرتين في المجموعة الثالثة، ومرتين في المجموعة الرابعة.
والواقع أنّ اسم دلمون كان معروفاً قبل ظهور مجموعات راولنسون، فقد عثر عليه قبل ذلك منقوشاً في نص على جدران قصر الملك سرجون الآشوري (القرن السابع ق.م.) الذي اكتشفه العالم لايار في كويونجيك وقد جاء في هذا النص الذي يسجل فتوحات الملك وحملاته العسكرية:
"وأخضعت تحت امرتي بيت ياكين على شاطئ البحر الأحمر منطقة الخليج دلمون" ثمّ يضيف النص أنّ "أوبيري ملك دلمون الذي يعيش دلمون الماء على مسافة 30 ساعة مزدوجة (بيرو) وسط بحر الشمس المشرقة سمع قوتي وبعث لي بهداياه".
ولم تفد الاشارات إلى اسم دلمون التي وردت في مجموعات راولنسون كثيراً في زيادة معلومات العلماء عنها. إذ أن ثلاثاً من هذه الاشارات جاءت في أشعار أو أغان تربط على نحو غامض بين دلمون وعدد من الآلهة المختلفة. وواحدة تذكر دلمون في عداد المدن الخاضعة لآشور في زمن الملك آشور بانيبال، والاشارة الخامسة جاءت في قائمة تحتوي أسماء بعض الآلهة والأقاليم التي تحت هيمنتها، وفي هذه القائمة سطر يقول "الإله انزاك .. إله دلمون"، أما النص السادس والأخير فهو عبارة عن لوح مسماري يسجل أعمال الملك سرجون الأكدي ويذكر أنّه وصل إلى "البحر الأسفل وهزم ديلمون".
وقد ظن سير راولنسون في أول الأمر أن سرجون الأكدي هذا شخصية أسطورية. ولكن الاكتشافات التي توالت في بلاد ما بين النهرين لم تلبث أن أثبتت أنه شخصية حقيقية، فهو مؤسس الامبراطورية الأكادية بعد أن هزم السومريين وقضى على مدنهم وجعل عاصمته "آكاد" في جنوب العراق عاصمة لامبراطورية شاسعة الأطراف تمتد من شاطئ البحر المتوسط غرباً إلى شواطئ الخليج جنوباً. وقد عاش هذا الفاتح "السامي" الكبير حوالي عام 2300 ق.م. أي أنه يسبق بستة عشرة قرناً سميه سرجون الآشوري الذي عاش في القرن السابع قبل الميلاد والذي سبق أن رأينا أنه أخضع ديلمون أيضاً وتلقى الهدايا من ملكها أوبيري.
مسألة دلمون:
وعلى أية حال فإن علماء الآشوريات كما سلف القول لم يهتموا كثيراً بتعيين مكان دلمون، فقد كان أمامهم ما يهتمون به أكثر وهم عاكفون على استخلاص تلك الحضارة البابلية العظيمة من الضباب الأثري ومقارنة ما تسفر عنه الاكتشافات الأثرية بما سجل عن أحوال بلاد شنغار وملوك الرافدين في اصحاحات العهد القديم.
ولكن مسألة دلمون لم تلبث أن برزت وفرضت نفسها على رجال الآثار المشغولين بما يتصورون أنّه أهم وأجدى.
ففي عام 1880 اكتشف رحالة بريطاني يدعى الكابتن ديوراند حجراً عليه كتابة مسمارية في مسجد قديم بالبحرين. وكان هذا الاكتشاف بمثابة حجر الزاوية في معرفتنا بتاريخ البحرين القديم على نحو يذكرنا بحجر رشيد بالنسبة لمعرفتنا باللغة المصرية القديمة. ونستمع إلى الكابتن ديوراند يقص نبأ عثوره على الحجر، فيقول:
"... وأخيراً أبلغني أحد الناس عن حجر عليه كتابة لا يعرف نوع كتابتها أو قراءتها، فذهبت لرؤية ذلك الحجر المطمور في أرض مدرسة الداوود بالبلاد القديم...وهذا الحجر من البازلت الأسود يشبه في شكله مقدمة السفينة أو لسان الحيوان وهو بطول قدمين وبوصتين، وبالرغم من قداسة المكان الذي يوجد فيه الحجر إلا أنني لم أواجه أية صعوبة في الحصول عليه وذلك بعد أن أخبرت الملاّ بأنّ ذلك الحجر يخصُّ عبدة النار وأنّه بمثابة صنم لا يناسب المكان المطمور بأرضه، ولكي أدعم كلامي ووجهة نظري تبرعت ببضع روبيات لترميم المسجد فما كان من الشيخ (الملاّ) واسمه أحمد إلاّ أن أرسل أحد عبيده ليحفر الأرض وينقل ذلك الحجر إلى منزلي".
ولمّا فكت طلاسم الكتابة المسمارية المنقوشة على الحجر وجد أنها عبارة عن جملة واحدة في ثلاثة أسطر تقول:
Hekal. Rimugas cri Inzak Agiru
وترجمتها: "هذا قصر ريموقاس
خادم الاله انزاك
من قبيلة عقير"
وكانت هذه العبارة بمثابة مفتاح سر دلمون الغامض، فقد كلفت الجمعية الآسيوية الملكية التي نشرت تقرير الكابتن ديوراند عالم الآشوريات البريطاني سير راولنسون بأن يعلق على التقرير. وكتب راولنسون مقالاً بديعاً في حجم تقرير ديوراند نفسه عن مسألة دلمون ربط فيه لأول مرّة بين اسم دلمون القديمة والبحرين الحديثة وأورد فيه جميع الاشارات التي وردت عن ديلمون ومنطقة الخليج في الكتابات المسمارية ومؤلفات الاغريق والرومان، كما تحدث عن مكانة دلمون في أساطير البابليين وديانتهم.
اعتمد راولنسون على النص الذي سبق أن نشره في إحدى مجموعاته والذي يقول : "الاله انزاك... اله دلمون" للقول بأنّ اكتشاف أثر لكاهن هذا الاله في البحرين يدل على أنّ البحرين هي نفسها دلمون القديمة. وقال راولنسون أنّ انزاك اسم أكادي للإله Nedo الذي يسميه الإغريق Mercury أي عطارد، والمعروف أنّ الاغريق منذ أيام الاسكندر يرون أنّ أهم عبادة كانت في منطقة الخليج العربي هي عبادة فينوس إلهة الحب والجمال وهي ذات علاقة بعطارد أو انزاك باللغة الأكادية البابلية.
ولكن سير راولنسون أقام اعتقاده هذا على الحدس أكثر مما أقامه على الدليل القاطع... وقد أثبتت الاكتشافات التالية صحة حدسه. وأتى بعد ذلك دكتور بيتر كورنوال الذي قام خلال الحرب العالمية الثانية بالتنقيب في عدد من تلال المدافن بالبحرين ثمّ كتب نظرية مفصلة قدّم فيها مزيداً من الأدلة على أنّ البحرين هي دلمون القديمة.
نص سرجون الآشوري:
إذا كانت دلمون هي البحرين كما استنتج راولنسون من الربط بين ما جاء في الحجر الأسود من أنّ البحرين هي مقر انزاك وما جاء في الوثيقة المسمارية التي ورد بها نص يقول: "الاله انزاك اله دلمون" فهل ينطبق هذا الاستنتاج المنطقي على اشارة سرجون الآشوري إلى ديلمون بأنها تقع على مسافة 30 ساعة مزدوجة (بيرو) وسط بحر الشمس المشرقة؟.هذا السؤال تصدى للإجابة عنه بالايجاب العالم الاثري الدنماركي جيوفري بيبي الذي قام بالتنقيبات الشهيرة في البحرين ومنطقة الخليج. إذ يعتقد بيبي أنّ نص سرجون الآشوري يحدد بدقة نسبية بالغة موقع ديلمون في الخليج العربي.
إنّ نص سرجون الآشوري يذكر مكانين على وجه التحديد هما بيت ياكين ودلمون، وواضح من النص أنّه كانت هناك حدود مشتركة بين دلمون وبيت ياكين مما يدل على أنّ ملك دلمون (أو بيري) بينما كان يعيش في جزيرة (كالسمكة في الماء) كان يفرض سيطرته أيضاً على جزء من الساحل القاري لبلاد العرب، ولكن بيت ياكين كانت بدورها متصلة بحدود عيلام (التي هي ايران حالياً وعاصمتها سوسة) كما يفهم من النص أيضاً... فأين تقع بيت ياكين على وجه التحديد؟.
نعرف من نص آشوري آخر تركه سنحريب Sennaeherib ابن سرجون الآشوري والذي تولّى الملك بعد أبيه عام 705 ق.م. أنّه حارب ميروداش – بالادان ملك بيت ياكين الذي كان قد ثار بعد أن أخضعه والده سرجون ويقول النص: "أنّ سنحريب هزم ميروداش – بالادان وأخضع بلاده بيت ياكين وإنّ سكان المدن الساحلية في بيت ياكين ركبوا السفن وعبروا البحر حيث لجأوا إلى عيلام" وهذا لا يترك مجالاً للشك في أنّ بيت ياكين كانت على الجانب الغربي للخليج بدليل أنّ سكانها اضطروا لعبور البحر للوصول إلى عيلام على الجانب الشرقي هرباً من سنحريب، وبذلك تكون الحدود المشتركة بين بيت ياكين وعيلام التي تحدث عنها سرجون الآشوري تقع في المنطقة الشمالية من رأس الخليج في مكان ما من الجزء الجنوبي لوادي دجلة والفرات، ويكون موقع دلمون القارية (التابعة لدلمون الجزيرة) جنوبي بيت ياكين على امتداد الساحل العربي للخليج، أي منطقة الاحساء شمالاً إلى الكويت بالأسماء المعاصرة.
نأتي بعد ذلك إلى تحديد موقع جزيرة دلمون حسب نص سرجون الآشوري.
إنّ النص يشير إلى أنها تبعد بمقدار 30 ساعة مزدوجة داخل الماء، والساعة المزدوجة (بيرو) وحدة قياس للمسافة بمقدار ساعتي مشي، أي أنها تبعد بمقدار 60 ساعة مشي، وإلى هنا تبرز عقبتان:
الأولى: أننا لا نعرف من أين يبدأ القياس الذي يؤدي إلى الوصول إلى دلمون بعد 60 ساعة مشي.
الثانية: أننا إذا اعتبرنا أنّ الساعة المزدوجة تقاس بالمشي على الأقدام فإنّ دلمون تكون أبعد كثيراً إلى الشمال عن موقع البحرين الفعلي.
غير أنّ إمعان النظر قليلاً يحلُّ العقبتين... فالأكثر احتمالاً أن يبدأ القياس من (ساجلات) على حدود عيلام حيث يبدو محتملاً أنّ أوبيري ملك ديلمون قدّم هداياه إلى سرجون في هذا المكان، وهو يقع في رأس الخليج أو منطقة شط العرب حالياً حيث تلتقي حدود عيلام وحدود بيت ياكين.
أمّا العقبة الثانية فتزول أيضاً إذا اعتبرنا أنّ البيرو أو الساعة المزدوجة المشار إليها في النص تقاس بالإبحار وليس بالمشي على الاقدام، فعندئذ تبدو المسافة المذكورة معقولة جداً، فإذا كان القارب القديم يبحر مسافة 5 أميال في الساعة الواحدة أي عشرة أميال في الساعة المزدوجة (البيرو) فإنّه يقطع بعد 30 ساعة مزدوجة 300 ميل وهي نفس المسافة التي تبعدها البحرين فعلاً عن رأس الخليج.
وعلى هذا - كما يقول جيوفري بيبي- يكون تخمين راولنسون صحيحاً إلاّ إذا تخلينا عن الشاهد الجغرافي الأثري الوحيد الذي لدينا عن موقع دلمون.
وبعد زمن ديوراند وراولنسون اكتشف اسم دلمون في كثير من الوثائق المسمارية الأخرى المتعلقة بشتّى الأغراض الدينية والتجارية والسياسية، وأقدم وثيقة تذكر اسم دلمون تمّ اكتشافها حتّى الآن هي لوح أور – نانيش ملك لجش الذي عاش حوالي عام 2520 ق.م. وفيه يقول: " أن سفن دلمون القادمة من بلاد أجنبية أحضرت لي الخشب كهدية". أما أحدث وثيقة مسمارية تذكر اسم دلمون فهي وثيقة ادارية من العام الحادي عشر من حكم نابونيدوس ملك بابل الذي عاش عام 544 ق.م. وجاء فيها ذكر حاكم دلمون.
وبذلك تكون دلمون قد استمرت معروفة لمعاصريها في الزمن القديم ألفي عام (من 2520 إلى 544 ق.م.) ولاشكّ أنها كانت معروفة قبل وبعد ذلك وقد تكشف الوثائق في المستقبل ما يزيد من المساحة الزمنية لمعرفتنا بها.
أسطورة الفردوس:
لم تكن دلمون مجرد مملكة صغيرة إلى الجنوب من بابل، ولم تكن مجرد محطة بحرية تجارية في الطريق من الهند إلى بلاد الرافدين ولا تقتصر أهميتها على مجرد معرفتنا بحضارة مفقودة أخرى أو مكان أثري آخر كما هو الحال مع ماجان وميلوخا وعيلام وبيت ياكين وغيرها من نقاط الحضارة المتناثرة حول بلاد الرافدين. وإنّما تكمن أهمية دلمون على وجه التحديد في أنّها تحتل مكاناً فريداً في الميثولوجيا السومرية والبابلية باعتبارها مكاناً مقدساً له مواصفات الجنة أو الفردوس.
وتحدثنا أسطورة سومرية شهيرة عن دلمون كأرض طاهرة نظيفة مشرقة، لا موت فيها ولا مرض ولا عدوان، على نحو يفيد وجود فكرة سومرية عن جنة مقدسة في هذا المكان تصفها الأسطورة في أبياتها الافتتاحية كما يلي:
أرض يلمون مطهرة... أرض دلمون نقية
أرض دلمون نظيفة... أرض دلمون مشرقة
في دلمون لا ينعق الغراب
ولا تصيح الحدأة
ولا يقتل الأسد
ولا يفترس الذئب الحمل
لا يوجد فيها كلب يقتل جدياً
أو خنزير يسطو على غلة
لا أحد يقول عيني تؤلمني
ولا أحد يقول رأسي تصدعني
فيها لا تقول المرأة العجوز: أنا عجوز
ولا يقول الشيخ: أنا طاعن في العمر
فيها الغادة لا تستحم (أي لا تتسخ)
والماء المتلألئ لا يراق
من يعبر النهر (الموت؟) لا تندو عنه.. (صيحة؟)
ولا يمشي إليه الكهنة النائحون
والمغنى لا ينطق بالبائيات
ولا يقف إلى جانب سور المدينة (الجبانة؟) ويرفع عقيرته بالرثاء...
هذه الأسطورة وردت في نص سومري اكتشف في نيبور عبارة عن لوح طيني كبير يضم 278 سطراً من الكتابة المسمارية في ستة أعمدة وهو محفوظ حالياً في متحف جامعة بنسلفانيا الأمريكية، وقد نشر النص لأول مرّة في عام 1915 ولكن ترجمته حينئذ كانت غامضة وغير مفهومة إلى حد كبير. وفي عام 1945 ظهرت ترجمته الدقيقة الواضحة على يد البروفيسور كريمر الثقة العالمي في الحضارة السومرية وأمين قسم الشرق الأدنى بمتحف جامعة بنسلفانيا.
وكان كريمر نفسه هو أول من أطلق على هذه الاسطورة في كتابه "نصوص الشرق الأدنى القديم) أسطورة الفردوس، كما أنّه أسمى اللوح المكتوبة عليه الأسطورة "لوح امرمار" نسبة إلى السيدة امركار التي حملته من العراق إلى أمريكا.
ولحسن الحظ فإنّ لوح امركار هذا الذي يحوي "أسطورة الفردوس" من أحسن الألواح السومرية حفظاً وسلامة، ليست به فراغات أو انقطاعات أو غموض مما أتاح للعلماء معلومات متصلة قيمة عن صسمات الفردوس لدى السومريين التي ربما تكون قد نفذت إلى التصور العبراني للفردوس.
تجري أحداث الأسطورة في ديلمون التي توصف بأنّها "بلاد ومدينة" والتي رأينا وصفاً لها فيما سبق، أما أشخاصها الرئيسيون فهم (انكي) إله الماء و (نينخورساك) ربة الأرض وعدة آلهة أخرى من آلهة النباتات.
وتمضي أحداث الأسطورة بعد الوصف الافتتاحي لجنة ديلمون فتقول أن الشيء الوحيد الذي كان ينقص ديلمون هو الماء العذب، ولذلك طلبت الربة نينخورساك (الأرض) من الإله انكي (اله الماء العذب) أن يوفر المياه العذبة التي تنقص هذه الجنة الأرضية، وهو ما فعله انكي بسعادة، ثمّ يتزوج انكي من نينخورساك وينجبان الإلهة نينسان أو نينمو (إلهة النباتات) ومما له دلالة أنّ الأسطورة تذكر أنّ فترة حمل نينخورساك لنينمو كانت تسعة أيام، أي أنّ اليوم يقابل شهراً بالنسبة للحمل البشري، ووضعت نينخورساك حملها بدون ألم... إذ لا ينبغي أن ننسى أنّ هذه الأحداث تدور في الجنة، ولا ألم في الجنة.
إلى هنا يبدو منطق الأسطورة مفهوماً... التزاوج بين الأرض والماء العذب ينتج النبات، فنحن إذن ازاء أسطورة تفسيرية أي أسطورة تفسر أصل الأشياء لا أسطورة طقوسية أي تستخدم للتلاوة في امراسم الدينية، غير أنّ الأسطورة التي نحن بصددها لا تلبث أن تدخل في مجالات لا يحيط بها ادراكنا الحديث، فتقول أنّ انكي واقع ابنته نينسان فولدت الربة نينكورا وهذه بدورها يوقعها انكي فتلد الربة أوتو التي توصف أيضاً بأنها من آلهة النباتات، وعندئذ تحذر الربة الأم نينخورساك حفيدتها أوتو من انكي وتنصحها كيف تتصرف لتدفع عن نفسها غائلته، ولكن انكي وقد شاهد أوتو على حافة الغدير فتاة يانعة ناضجة يحن إلى مضاجعتها ويتقرب إليها، فتطلب أوتو -ربما نتيجة لنصيحة نينخورساك- أن يأتيها انكي بهدية من الخيار والتفاح والعنب (مما يدل على أن عادة هدية العرس كانت معروفة منذ أقدم العصور) ويحضر انكي الهدية المطلوبة إلى كوخ أوتو وتستقبله هذه بابتهاج، ونتيجة لاتحادهما تولد ثماني مولودات جديدات، ولكن قبل أن تتمكن نينخورساك من اعطاء هذه المولودات أسماءها وخصائصها يبعث انكي رسوله إسيمود لاحضارها له حيث يأكلها جميعاً واحدة وراء الأخرى.
هذه التفاصيل يغمض تفسيرها كما هو واضح، ولكن ربما كانت تشير إلى تفسير بعض الظواهر النباتية نتيجة لاتحاد الماء بالنباتات المختلفة، فتنشأ مثلاً الطحالب ومواد الصباغة... إلخ.
وعلى أية حال تمضي الأسطورة فتقول أنّ نينخورساك تغضب غضباً شديداً من انكي وتصب عليه لعنات رهيبة وتنصرف عنه، كما تستاء الآلهة الأخرى أيضاً من أفعاله، ونتيجة لذلك يسقط انكي مريضاً مصاباً في ثمانية أجزاء مختلفة من جسمه.
ولنا أن نتصور كيف تتدهور الأشياء نتيجة للخصام بين انكي ونينخورساك، أي نتيجة لانحسار الماء العذب عن الأرض الخصبة، فلا بدّ أن تكون النباتات قد ذبلت ووحوش جنة ديلمون وطيورها قد تضررت، إنّ شيئاً غير مقدس (الخصام والغضب) قد حدث في هذه الأرض المقدسة، ولكن الوضع لا يستمر على ذلك طويلاً، إذ يتصدى ثعلب الجنة للمصالحة بينهما، ونتيجة لدهاء الثعلب تعود نينخورساك وتقرر معالجة انكي بأن تخلق ثماني آلهات تتولى كل منها شفاء جزء من أجزاء انكي المريض. وهكذا تخرج ثماني آلهات جدد كان آخرها الاله انشاج المقابل السومري للاله انزاك اله ديلمون الذي عُثر على اسمه مكتوباً على الحجر الأسود الذي اكتشفه الكابتن ديوراند في البحرين.
ويشير الباحثون إلى وجود علاقة لغوية بين أسماء كل من هذه الآلهة الثماني وبين أسماء الأعضاء المصابة في جسد انكي وتبرز منها بصفة خاصة إلهة تدعى نينتي تتولى علاج ضلع انكي، إذ إنّ كلمة "نن" بالسومرية معناها سيدة، وكلمة "تي" تعني ضلعاً، فيكون اسم هذه الربة "سيدة الضلع" ومن العجيب أيضاً في اللغة السومرية أنّ كلمة "تي" تعني ايضاً في اللغة السومرية (الحياة) أي أنّ اسم هذه الربة يمكن أيضاً أن يكون "سيدة الحياة" ... أو "حواء".
وهنا نجد تشابهاً قوياً ملفتاً للنظر بين الاسطورة السومرية وقصة التوراة عن خلق حواء من ضلع آدم. إذ يقول سفر التكوين : "فأوقع الرب الإله سباتاً على آدم فنام فأخذ واحداً من أضلاعه وملأ مكانها لحماً وبنى الرب الإله الضلع التي أخذها من آدم امرأة وأحضرها إلى آدم".
والسطور الختامية في القصيدة السومرية ممحوة بعض الشيء ولكن يبدو أنها توحي بأنّ الىلهة الثماني اعتبرت بنات انكي وابنائه وقامت نينخورساك بتحديد مصائرها، ومن المهم أن نلاحظ أنّ هذه الأسطورة الغريبة لا مقابل لها في أساطير الشرق الأدنى القديم إلا فيما يتعلق بفكرة وجود عصر ذهبي في الماضي السحيق وهي فكرة الانتشار في كل أساطير البشرية.
تأثر العهد القديم بفكرة الجنة الديلمونية
إنّ هذه الاسطورة السومرية التي تدور أحداثها في ديلمون تعد أول أقدم نص بشري يتحدث عن فكرة وجود أرض مقدسة وارفة الظلال، جارية الأنهار، تمت فيها عملية خلق على نحو ما، وهي أرض مبرأة من كل سوء، لا يعرف فيها المرض أو الموت، ولا تفترس الحيوانات بعضها بعضاً. هذه السمات قوية الايحاء بفكرة الجنة التي ورد ذكرها في سفر التكوين من العهد القديم مما جعل بعض الباحثين يتجهون إلى افتراض أنّ كاتب سفر التكوين قد تأثّر بفكرة الجنة الديلمونية. وبالطبع فإنّ هذا التأثير -كما يقولون- لم يكن بالضرورة نتيجة نقل مباشر، أي بترجمة الاسطورة الديلمونية إلى اللغة العبرانية القديمة، وإنما يمكن القول بأنّه وجدها في تراث شعبه فأخذها واستفاد بها ونسج قصة عن معتقداته حول الجنة.
فإذا اضفنا إلى ذلك اشارة الأسطورة السومرية إلى خلق امرأة في هذه الأرض تتولى علاج ضلع رجل لأمكن القول أنّ التشابه بين الحكايتين لم يكن محض صدفة خاصة إذا كان اسم هذه المرأة واحداً في الحالتين، فهو مشتق من مادة الحياة، فالمرأة تدعى سيدة الحياة في القصة السومرية وحواء في سفر التكوين.
والواقع أنّه ليس وصف الجنة وعلاقة حواء بضلع الرجل هما الامران المتشابهان الوحيدان بين سمات الجنة في سفر التكوين وتلك الاساطير السومرية الأدم عهداً بألف عام على الأقل وإنما هناك عناصر كثيرة متشابهة بينهما، فمثلاً هناك النص في التراثين على أهمية اكتساب المعرفة، والتحدث عن سر الولادة والخلق، وسر الحياة والموت، وسبب الالم والمرض والشقاء، وخلق الانسان الأول من عنصرين ترابي والهي كما نجد ذكراً في الحالتين لرموز معينة مثل الشجرة المقدسة وألواح القدر، ودهاء الحية، ونعرف من أسطورة أدابا (آدم) السومرية وملحمة جلجامش مدى اهتمامها بالبحث عن الخلود، وكيف أصبحا قاب قوسين أو أدنى من الحصول عليه، ثمّ فقداه نتيجة للضعف البشري، تماماً كما حدث لآدم في الجنة، بالرغم من اختلاف الوقائع المحددة في التراثين.
ولعله ليس من قبيل الصدفة أن يحدد سفر التكوين موقع الجنة في مكان ما من بلاد الرافدين أو بالقرب منها، وأن يذكر من بين أنهارها دجلة (حدقل) والفرات، فقد جاء في سفر التكوين : 14:12
"ولقد أثبت السيد الرب جنة في ناحية الشرق من عدن ووضع فيها الانسان بعد ما خلقه، ومن الأرض أخرج السيد الرب كل شجرة تسر النظر وتكون صالحة للغذاء... ونهراً يخرج من عدن يروي الجنة ومن ثمّ يتجزأ في اربعة رؤوس فاسم الأول منها بيسون واسم النهر الثاني جيحون واسم النهر الثالث حدقل وهو الذي يجري نحو شرق آشور، والنهر الرابع هو الفرات".
ويقول الدكتور فاضل عبد الواحد علي المتخصص في حضارات ما بين النهرين أنّ كلمة عدن ربما جاءت من الكلمة السومرية Adinu ومعناها السهل أو الأرض السهلة وبالإضافة إلى هذا المدلول العام للكلمة فقد ظهر من النصوص السومرية التي انحدرت الينا من فجر عصر السلالات الثالث (في حدود 2450 ق.م.) أنّ كلمة عدن كانت تطلق بالتحديد على المناطق السهلة الواقعة جنوبي مدينة أوما (خوجة الحالية) غربي مدينة لكش، وهي المنطقة التي كانت سبباً في نزاع طويل بين هاتين المدينتين أوما ولكش. ثمّ نجد التوراة تفترض ضمنياً أنّ جنة عدن كانت تقع في جنوب وادي الرافدين أي في سومر.
وعلى ذلك يمكن القول بأنّ العبرانيين قد أخذوا اسم عدن ومكان وجودها في بلاد الرافدين عن الحضارة السومرية وربطوها بتصور الجنة الديلمونية دون أن يدركوا أنّ السومريين كانوا يتصورون وجود الجنة في جزيرة ديلمون بالتحديد، ومع ذلك فإنّ كلمة الفردوس التي تطلق أحياناً على الجنة يمكن أن تشير إلى موقع ديلمون بالتحديد.
إذ يقول العلامة جواد علي (المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام جـ1 ص 563 ) هناك نص بابلي يرجع إلى سنة 317 ق.م. وردت فيه عبارة "أرض رعيت برديسو" وتقابل هذه الكلمة كلمة Pildash أو Pardes بالعبرانية وفردوس بالعربية وتقع هذه الأرض في القسم الشرقي من جزيرة العرب بين ماجان (عمان الحالية) وبيت نبسانو (التي هي جزيرة ديلمون) وقد حملت هذه التسوية بعض العلماء على التفكير في أنّ ما ورد عن جنة عدن في التوراة إنما أريد به هذه المنطقة التي تقع في القسم الشرقي من جزيرة العرب وعلى سواحل الخليج.
ويوجد في المتحف البريطاني خاتم سومري يرجع تاريخه إلى منتصف الألف الثالث قبل الميلاد اشتهر منذ اكتشافه باسم "خاتم الاغراء" Seal of Temptation إذ إنه ينقل بصورة وافية جو الفردوس الذي ورد في التوراة فعناصر تصميمه تتألف من اله وشجرة وامرأة وحية جنباً إلى جنب، والشجرة محملة بالثمار، والحية تقف على ذنبها خلف المرأة وكأنها تهمس في أذنها. وقد اختلفت الآراء في هذا الخاتم فقال بعض المتحمسين من العلماء أنّه يمثل اشارة واضحة إلى قصة الاغواء التي تعرض لها آدم في الجنة، وقال آخرون أنّه لا ينبغي أن نحمّل الأثر أكثر مما يحتمل وإنّ التشابه بين محتوياته وعناصر قصة الاغواء الدينية ليس أكثر من مصادفة، ولكن ما يهم على أيّة حال هو أنّ هذا الخاتم يمثل مفهوم العراقي القديم للعصر الذهبي السحيق حيث كان يجتمع الآلهة والبشر تحت ظلال الأشجار وتشاركهم سعادتهم الطيور والوحوش دون عداء أو فزع، وهو نفس ما تمثله صورة ديلمون في اسطورة "انكي ونينخورساك" التي وردت في لوح امركار الذي أشرنا إليه فيما قبل، فهنا نجد أنّ الأسد لا يقتل، والذئب لا يفترس الحمل، والكلب لا يعقر، والخنزير لا يسطو على الغلة.
ونجد لهذه الصورة أيضاً انعكاساً في سفر أشعياء بالتوراة حيث نقرأ عن حالة السلم والطمأنينة بين الإنسان والحيوان ما يلي:
"فيسكن الذئب مع الخروف، ويربض النمر مع الجدي، والعجل والشبل والمسمّن معاً، وصبي صغير يسوقها، والبقروالدابة ترعيان، تربض أولادهما معاً، والأسد كالبقر يأكل تيناً، ويلعب الرضيع على درب الصل، ويمد الفطيم يده على حجر الافعوان...". (أشعياء 1:6-10)
الناجي من الطوفان يحيا في أرض الخلود
هذه النظرة إلى ديلمون باعتبارها الجنة أو الفردوس الأرضي جعلت سكان بلاد الرافدين القدماء يعدونها أيضاً "أرض الخلود"، ولذا كان من الطبيعي أن تجعلها الآلهة المكان الذي يقيم فيه الرجل الذي نجا من الطوفان بعد أن منحته الآلهة حق الخلود.
ولدينا نصان لأسطورة الطوفان أحدهما سومري وهو الأقدم بالطبع، والثاني بابلي آشوري مأخوذ عنه مع تغيير أسماء الأبطال والآلهة، والمعروف أنّ الحضارة البابلية الىشورية ورثت الكثير من ثقافة السومريين في اللغة والكتابة والأساطير والأدب والدين... إلخ.
وفي أسطورة الطوفان السومرية نقرأ:
تجمعت كل العواصف البالغة القوة وهاجمت كعاصفة واحدة...
وفي وقت واحد غطّى الفيضان مراكز العبادات
ولمدة سبعة أيام وسبع ليال
ظلّ الطوفان يجتاح كلّ الأرض
وأخذ القارب الكبير تتقاذفه العواصف فوق الأمواج العظيمة
وانبلج أوتو (إله الشمس) وألقى ضوءه على السماء والأرض
وفتح زيوسودرا نافذة القارب العظيم
ونثر البطل أوتو أشعته داخل السفينة الكبيرة
وتقدم زيوسودرا الملك
وركع أمام أوتو
وذبح ثوراً وغنماً
وبعد انقطاع في اللوح المسماري الذي يحوي الاسطورة يمضي النص فيصف مصير زيزسزدرا قائلاً:
تقدّم زيوسودرا الملك
فركع أمام آنو وانليل
وبارك آنو وانليل زيوسودرا
وأعطياه حياة تشبه حياة الآلهة
وهباه أنفاساً خادة كأنفاس إله
وعندئذ، زيوسودرا الملك
الذي حفظ اسماء النباتات وبذرة البشرية
جعلته الآلهة يعيش
في أرض ديلمون
أرض العبور
المكان الذي تشرق منه الشمس.
ففي هذا النص السومري من اسطورة الطوفان تذكر الأسطورة صراحة أرض ديلمون كمكان يعيش فيه زيوسودرا ملك سيبار الناجي من الطوفان، إذ لما كان زيوسودرا قد منح حياة خالدة جزاء لأنّه "حفظ أسماء النباتات وبذرة البشرية" لذا كان من الطبيعي أن يحيا في أرض الخلود لأنّ الفكرة المسبقة لدى السومريين عن ديلمون أنّها الجنة.
ولكن النص البابلي من أسطورة الطوفان، وهو الأحدث عهداً من النص السومري، لا يذكر ديلمون بالاسم كمكان يعيش فيه الناجي من الطوفان وهو أوتنابيشتيم الذي يعادل زيوسودرا في الاسطورة السومرية. ومن غير الواضح ما إذا كان عدم ذكر ديلمون في هذا المقام يعود إلى انقطاع في النص - إذ ان اللوح غير واضح بالفعل في هذا المكان- أو لأنّ البابليين لم يكونوا ينظرون إلى ديلمون كأرض جنة وخلود كما كان يفعل أسلافهم السومريون، خاصة أنّ هؤلاء -أي السومريين- كانوا ينفردون بأسطورة انكي ونينخورساك التي لا مقابل لها في الميثيولوجيا البابلية.
ومع ذلك فإنّ النص البابلي أيضاً يشير اشارات قوية إلى امكان أن تكون ديلمون هي المكان الذي التقى فيه جلجاميش مع أوتنابيشتيم الناجي من الطوفان، إذ في نهاية القصة عندما تعلن الآلهة رضاها عن أوتنابيشتيم وزوجته يباركهما كبير الآلهة انليل ويمنحهما الخلود كآلهة، ويجعلهما يعيشان "هناك بعيداً عند فم الأنهار" وإذا لاحظنا أنّ ديلمون تقع على الامتداد البحري لفم نهري دجلة والفرات (وغيرهما من أنهار الهضبة العيلامية) أمكننا المطابقة بين مكاني اقامة بطل الطوفان في الأسطورتين.
ولما كان النص البابلي هو الأوفى من حيث تفصيلات القصة فلا بدّ من استعراضه بشيء من الاسهاب في مقام البحث عن مركز ديلمون في الأساطير المسمارية.
ملحمة جلجاميش:
إنّ قصة الطوفان البابلية هي جزء من ملحمة جلجاميش الشهيرة وقد عُثر على هذه الملحمة في 12 لوحاً وجدت مطمورة في أطلال مكتبة آشور بانيبال في نينوى. وفي عام 1872 حلت رموز أحد هذه الألواح، وهو اللوح رقم 11، فوجد أنّه يحتوي على قصة طوفان عظيم تعرضت له البشرية بأسرارها ونجا منه فرد واحد وعائلته وما أخذه معه من نباتات وحيوانات وأدّى هذا الاكتشاف إلى إثارة اهتمام بالغ في العالم وفي الدوائر الدينية والأكاديمية على وجه الخصوص نظراً للتشابه الكبير بين هذه الأسطورة وقصة الطوفان التي وردت في الكتب المقدسة.
ولحسن الحظ فإنّ اللوح الحادي عشر من ملحمة جلجامش كان أحسن الواح الملحمة الاثني عشر حفظاً مما أعطانا تفاصيل كثيرة عن قصة الطوفان كما حكاها أوتنابيشتيم والطريق الذي سلكه جلجامش كي يلتقي به. وتصور الأسطورة جلجاميش ملك اريك (الوركاء) على أنّه حفيد أوتنابيشتيم الناجي من الطوفان، وبعد أن تقص الأسطورة حياة جلجاميش ومغامراته وتصور مدى انزعاجه لوفاة صديقه انكيدو وادراكه أنّ الموت لا محالة طائله هو أيضاً، تحكي لنا القصة أنّ جلجاميش قرر الانطلاق للبحث عن جده اوتنابيشتيم الرجل الوحيد الذي كافأته الآلهة بالخلود جزاء تقواه وانقاذ بذرة البشرية من الطوفان، وذلك على أمل أن يعرف منه سرّ الخلود.
وفي بداية رحلة البحث عن أوتنابيشتيم يصل جلجامش إلى سفح سلسلة جبلية هي جبال ماشو. وكان يحرس مدخل هذه السلسلة من الجبال "رجل –عقرب" وزوجته. ويحذره الرجل العقرب بأنّ أي انسان حي لم يستطع أن يجتاز هذه الجبال ويقاوم أخطارها، ولكن أمام اصرار جلجاميش على مغامرته يسمح له الحارس بالمرور، ويتبع جلجاميش في رحلته الطريق الذي تسلكه الشمس، وبعد أخطار مخيفة يصل إلى شاطئ بحر الموت، وهناك يجد حارساً آخر في شكل امرأة صاحبة حانة جعة تدعى الربة سيدوري، وتحاول بدورها أن تثنيه عن محاولة عبور بحر الموت، وتخبره أنّ أحداً غير الإله شمس لا يمكنه عبور ذلك النهر، وتنصحه بأن يتمتع بالحياة طالما أنّه لا يزال على قيدها، فالموت مقدّر من الآلهة على البشر ولا يستطيع أحد أن ينجو من هذا المصير، وتقول له ألاّ يحاول البحث عن المستحيل وأن يقنع بأن يملأ معدته بأشهى الطعام وأن يبهج نفسه ليلاً ونهاراً:
عليك أن تجعل من كل يوم حفلاً للابتهاج
عليك أن ترقص وتلعب ليلاً ونهاراً
فلترتدي أجمل الثياب وأنظفها
فلتغتسل وتستحم في الماء
ولتبحث عن امرأة تحبها وتحبك
فتمنحها حمايتك وتجعلها تبتهج تحت جناحك
فهذا هو الممكن لابناء البشر
ولكن البطل جلجاميش يرفض أن يأخذ بنصيحة سيدوري حاملة جرة النبيذ، فيتركها ويمضي في طريقه، ولدى الشاطئ يلتقي مع أورشانبي الملاح الذي كان يقود سفينة أوتنابيشتيم ويأمره أن يعبر به مياه الموت، ويحاول أورشانبي بدوره أن ينصحه ويثنيه، ثمّ أمام اصراره يخبره عن الطريقة التي يمكن أن ينجو بها من المياه القاتلة، وهي أن يصنع طوفاً من خشب الأشجار ينقله إلى وجهته في المرحلة الأخيرة من رحلته تلك المحفوفة بالمخاطر والهلاك.
وما أن يلتقي جلجاميش مع أوتنابيشتيم حتى يطلب منه فوراً أن يبلغه بسر الخلود، وماذا فعل كي ينال هذا الامتياز الفريد، فيشرع الشيخ الطاعن في السن أوتنابيشتيم يقص على مسامع جلجاميش قصة الطوفان، وكيف أنّ الىلهة قررت تدمير البشرية لأنها تصدر ضوضاء مزعجة. ولكن انكي اله المياه الجوفية (الذي راينا صلته بدلمون) يحذر أوتنابيشتيم بما أضمرته الىلهة ويبلغه بأن يبني فلكاً بأوصاف ومقاسات معينة وأن يصطحب معه أسرته وحيواناته، وعلى حين غرّة بدأ الطوفان بالفعل بمياه تسقط من السماء وتنبثق من الأرض، ولمدة ستة ايام وليال هبت العاصفة، وعلا الموج، وفي اليوم السابع أطلق أوتنا بيشتيم حمامة وعصفوراً تباعاً ولكنهما عادا إلى الفلك فعلم أنهما لم يعثرا على ارض صلبة، وبعد ذلك أطلق غراباً فلم يعد، فعلم أنّ الماء قد غاص، ورسى الفلك على قمة جبل نيسير (في شمال كردستان) عندئذ فتح أوتنابيشتيم نوافذ الفلك وقدّم الاضحيات للىلهة، وتدخل انكي لدى انليل كبير الآلهة طالباً منه ألاّ يعاقب كل البشر بخطايا البعض منهم، فلا تذر وازرة وزر أخرى، فوافق انليل على ذلك وتعهد به، ثمّ دخل انليل الفلك ولمس أوتنابيشتيم وزوجته في جبهتهما، وقال:
منذ الآن سيكون أوتنابيشتيم خالداً
منذ الآن هو وزوجته سيكونان مثل الآلهة
ويعيشان هناك بعيداً عند فم الأنهار
ولا يذكر النص البابلي كما أسلفنا مكان التقاء جلجاميش وأوتنابيشتيم بالتحديد، وهو المكان الذي اتخذ مقراً للرجل الخالد، واكتفى بأن أشار اليه بعبارة "هناك بعيداً عند فم الأنهار". ولكن كان واضحاً لدى العلماء ان هذا النص البابلي لابد أن يكون كغيره من النصوص البابلية والآشورية التي عثر عليها في مكتبة آشور بانيبال منقولاً عن نص أقدم عهداً لم يكتشف بعد. ومرت أربعون سنة اخرى قبل أن يكتشف هذا النص الاصلي، وعندئذ اتضحت العلاقة الوثيقة بين قصة الطوفان ودلمون.
ففيما بين عامي 1899 و 1900 كانت بعثة اثرية من جامعة بنسلفانيا الأمريكية تجري تنقيبات في نيبور، وهي من أشهر المراكز الحضارية القديمة بأسفل بلاد ما بين النهرين وكانت في زمن السومريين وعهد سرجون الاكادي فيما بعد مركزاً لعبادة الإله انليل كبير الآلهة أو الأول بين الآلهة وهو بالتحديد الاله الذي دبّر الطوفان ومنح الخلود لأوتنابيشتيم في النهاية، وكشفت التنقيبات عن أول زاقورة مدرجة يعثر عليها في بلاد ما بين النهرين، والمعروف أنّه كان لكل مدينة سومرية زاقورة واحدة فحسب، وعثر بأعلى الزاقورة على معبد صغير، وفي أسفلها على أطلال المعبد الرئيسي لانليل، وبين هذه الأطلال عثر هيليريخت رئيس البعثة وكان حجة في الكتابة السومرية على أرشيف المعبد ويحوي حوالي 35 ألف لوح سومري وهي كمية تفوق ما عثر عليه من موجودات في مكتبة الملك الىشوري آشور بانيبال من القرن السابع قبل الميلاد.
وكانت معظم هذه الألواح مكتوبة بالقلم السومري الذي سبق الكتابة البابلية السامية في بلاد ما بين النهرين، ويرجع إلى هذا الاكتشاف الفضل في تحسين معرفة العلماء باللغة السومرية. وقد ظلّ العلماء عاكفين على حلّ رموز هذا الكنز من الكتابات المسمارية سنين طويلة، وفي عام 1914 فكت طلاسم أحد الألواح فغذا به يحتوي على جزء من نص قصة الطوفان التي سبقت معرفتها من اللوح البابلي.
ولكن اللوح كان مطموساً في معظمه للأسف، فلم يكن سليماً منه سوى ثلثه الأسفل وثمّة ثغرات في هذا الثلث أيضاً، غير أنّ ما تبقى من النص كان كافياً كي يوضح أننا بصدد نفس القصة التي قصها أوتنابيشتيم على جلجاميش فيما عدا أنّ الراوي في النص السومري يدعى زيوسودرا، ولحسن الحظ فإنّ الجزء الباقي الواضح من النص يحمل معلومات جديدة في غاية الأهمية، إذ بينما نجد أنّ النص الآشوري البابلي لا يحدد مكان إقامة أوتنابشتيم حيث التقى به جلجاميش نجد أنّ النص السومري يقول:
وعندئذ زيوسودرا الملك
الذي حفظ أسماء النباتات وبذرة البشرية
جعلته الآلهة يعيش
في أرض دلمون
أرض العبور
المكان الذي تشرق منه الشمس
والعبارتان الأخيرتان اللتان تصفان دلمون بأنّها "أرض العبور" و "المكان الذي تشرق منه الشمس" تستحقان وقفة تأمل، فإنّ تعبير "أرض العبور" غير واضح وهي ترجمة حرفية عن الأصل السومري "كور- بالا" وكلمة "كور" معناها في السومرية "أرض" أو "بلاد"، أمّا كلمة "بالا" فهو اسم فعل مشتق من فعل "يعبر" ويستخدم بصفة خاصة للدلالة على عبور الأنهار، وهذا يذكرنا على الفور بالتعبير الذي ورد في النص البابلي عن مكان اقامة أوتنابيشتيم "هناك بعيداً عند فم الأنهار".
أمّا تعبير "المكان الذي تشرق منه الشمس" فهو لا يقل غموضاً، وكثيراً ما استخدم -كما يقول جيوفري بيبي- كحجة لنفي أنّ ديلمون هي البحرين، إذ أنّ البحرين تقع إلى الجنوب من نيبور بينما "المكان الذي تشرق من الشمس" لا بدّ بالضرورة أن يكون في اتجاه الشرق. غير أنّ هذه الحجة كما يقول بيبي لا تصمد كثيراً إذا عرفنا أنّ البابليين ومن قبلهم السومريين كانوا يطلقون على الخليج العربي ثلاثة مسميات هي "البحر الأسفل" و "البحر المر" و "بحر الشمس المشرقة"، ومن الطبيعي تماماً بالنسبة لهم أن يسموا أي مكان فيه بالمكان الذي تشرق منه الشمس.
وباكتشاف هذا النص اكتسبت ديلمون أهمية بالغة لم تكن لها بمقتفى النص الآشوري البابلي إذ أنها اصبحت المكان الذي يعيش فيه خالداً الرجل الذي نجا من الطوفان، وإليها لا بدّ أن يكون قد سعى جلجاميش للقاء هذا الرجل.
ولكن لماذا جعلت الآلهة زيوسودرا بالسومرية، أو سرخاكيس بالأكاديّة، أو أوتنابيشتيم بالبابلية والىشورية يعيش في دلمون؟ إنّ الفلك لم يرس فيها بالتأكيد بل رسا حسب الاسطورة في الجبال الواقعة إلى الشمال من بلاد ما بين النهرين فما الذي أتى به جنوباً إلى ديلمون؟
الرد على ذلك واضح وسهل تماماً... إنّ الناجي من الطوفان الممنوح حياة خالدة لا بدّ أن يعيش في أرض الخلود التي لا يعرف فيها موت ولا مرض، أي ديلمون حسب ما عرفنا من أسطورة انكي ونينخورساك.
زهرة الخلود
عثرت البعثة الدنماركية الأثرية برئاسة جيوفري بيبي عند أقصى الطرف الجنوبي لجزيرة المنامة - كبرى جزر البحرين- على آثار قرية صغيرة تتميز بوجود أكوام كبيرة من المحار الفارغ فيها، ثبت أنها جميعاً من محارات اللؤلؤ. وتفصل المنطقة التي تقع فيها هذه القرية عن الصحراء الجنوبية للمنامة سبخة كبيرة يتعذر السير فيها مما يشير إلى أنّ المنطقة التي عثر فيها على محار اللؤلؤ الفارغ كانت في الأصل جزيرة منفصلة مجاورة للشاطئ، ثمّ حدث الاتصال بينهما لأسباب طبيعية.
ويرى جيوفري بيبي في كتابه "البحث عن ديلمون" أنّ هذا المكان لا بدّ أنّه كان في الأصل مستعمرة للغواصين القدامى، وأنّهم ينشرون فيه صيدهم من المحار حتى يجف في الشمس ويموت الحيوان بداخله ويفتح المحار فيجمعونه ويبحثون بداخله عن حبات اللؤلؤ الثمينة.
وهذه طريقة قديمة في صيد اللؤلؤ وهي معروفة في أماكن مختلفة من العالم ولكنها ليست متبعة في الخليج الحديث، إذ أنّ الغواصين العرب في العصور الحديثة كانوا لا يبرحون ظهر مراكبهم، وبعد أن يحصلوا على اللؤلؤ يلقون بالمحارات الفارغة في البحر مرّة أخرى.
ولذا فإنّ هذه المستعمرة لصيادي اللؤلؤ لا بدّ أن تكون أقدّم عهداً من الأسلوب امتبع حديثاً، مما يدل على أنّ صيد اللؤلؤ في البحرين كان حرفة قديمة جداً. وقد تبين لبيبي بالفعل أنّ هذه المستعمرة يعود زمنها إلى الألف الثالث قبل الميلاد نظراً لتماثل الفخار الذي عُثر عليه فيها مع الفخار الذ عُثر عليه في معبد باربار، وهكذا يمكن القول باطمئنان أنّ البحث عن الؤلؤ كان معروفاً في البحرين خلال عصور اسومريين والبابليين السحيقة.
والمعروف أنّه وردت في النصوص المسمارية التي عُثر عليها في أور اشارات إلى استيراد "عين السمكة" من دلمون، وهو تعبير يفسره العلماء بأنّه يعني اللؤلؤ.
وهذا يذكرنا مرّة أخرى بملحمة جلجاميش...
ففي النص البابلي لملحمة جلجاميش نرى أنّه بعد أن يصل البطل جلجاميش في بحثه عن الخلود إلى المكان الذي يعيش فيه أوتنابيشتيم- والذي تبين لنا أنّه ديلمون من النص السومري الناقص- وبعد أن يقص عليه أوتنابيشتيم قصة الطوفان يبلغه بأنّ ليس في إمكانه تحقيق الخلود، ولكن باستطاعته أن يجد تعويضاً جزئياً عن بغيته في "زهرة الشباب"، فهذه الزهرة يمكنها أن تجدد الشباب ولكن المشكلة تكمن في صعوبة الحصول عليها. وفي اللوح الثاني عشر والأخير من الملحمة يسر أوتنابيشتيم لجلجاميش بسر زهرة الخلود هذه، فيبلغه أنها موجودة في قاع البحر أو ربما على وجه التحديد في المياه العذبة "الابسو" الذي تحت سطح الماء المالح، وكان على جلجاميش كي يصل إليها أن يربط أحجاراً في قدميه ويغوص إلى قاع البحر حيث يقطف الزهرة السحرية. ثمً يتخلص من الأحجار المربوطة بقدميه فيطفو مرة أخرى إلى السطح.
هذا النص يثير اهتماماً خاصاً لأنّ الطريقة التي اتبعها جلجاميش للحصول على هذه الزهرة السحرية هي نفس الطريقة التي كان يستخدمها غواصو اللؤلؤ المعاصرون أي بربط الأثقال في أقدامهم، وعلى ذلك فالشكّ يكاد يكون معدوماً في أن يكون المقصود بزهرة الخلود إنما هو اللؤلؤ.
ومن المثير أن نلاحظ أنّ ثمة تقليداً كان شائعاً في مصر القديمة يعتبر اللؤلؤ اكسيراً للشباب والحياة الدائمة، إذ يقال أنّ الملكة البطلمية كليوبترا كانت تشرب اللؤلؤ مذاباً في النبيذ لتحافظ على ما تتمتع به من شباب وسحر وجاذبية.
وهكذا يبدو أنّ جلجاميش قد كوفئ في النهاية بما يعوضه عن مغامراته الشاقة ورحلاته المهولة، ففي دلمون أرض الخلود عثر على الزهرة السحرية التي تمد العمر وتجدد الشباب، وإذا كان الخلود نفسه من حق الآلهة ووقفاً عليهم دون غيرهم من بني البشر فإنّ تجديد الشباب يبدو على الأقل أقصى ما يمكن لانسان أن يطمح إليه. ولكن قصة جلجاميش لا تنتهي للأسف بهذه النهاية المنطقية السعيدة. فنرى أنّ جلجاميش بعد أن يفعل كل ما أوصاه به أوتنابيشتيم ويحصل على الزهرة يتردد في أكلها ويقرر أن يستبقيها ويأخذها معه إلى وطنه كي يقتسمها مع كبار أهل مدينته أورك (الوركاء) حتّى يتمتعوا جميعاً بالحياة الشابة المتجددة. ولكنه إذ يغفو إلى جانب غدير ليحصل على شيء من الاحة تخرج الحية من ثغرة في الماء وتأكل زهرة الخلود وبذلك تحرم الإنسان من فرصة الشباب الدائم وتحصل هي عليه، ألسنا نرى الحية تتخلص من جلدها القديم كلّها هرمت وتستبدل به جلداً جديداً وشباباً دائماً؟
وهذا يذكرنا مرة أخرى بالعهد القديم حين حرمت الحية الجنس البشري من فرصة الخلود والشباب الدائم في جنة عدن. وكانت سبباً في طرد الجنس البشري إلى حيث الشقاء والفناء.
وهنا تنتهي جلجاميش، والعبرة فيها واضحة: إذا كان الانسان لا يستطيع حتى أن يقاوم مجرد النوم فكيف به يأم أن يقاوم الموت؟
دلمون... وأصل السومريين
تلخيصاً لما سبق نقول أنّ سكان بلاد ما بين النهرين القدماء كانوا ينظرون إلى دلمون التي بثت أنها البحرين الحديثة نظرة مقدسة. والسومريون بالذات وهم أقدم صناع الحضارة في جنوب الرافدين كانوا يعدون دلمون الجنة أو الفردوس المفقود حيث يوجد النقاء والطهارة والنظافة وحيث السلام الأبدي يعم المخلوقات جميعاً من بشر ووحوش وطيور، وحيث لا مرض ولا موت ولا تقدم في العمر، فلا حاجة بالغادة أن تستحم لأنها نظيفة دائماً وكا ما حولها نظيف وطاهر. ولا تراق المياه المتلألئة على الأرض في الاستخدامات اليومية المعهودة لأنّ هذه المياه مقدسة تستخدم في الأغراض المقدسة وحدها (كما ثبت من حفائر معبد باربار) وهذه المياه العذبة أوجدها انكي اله المياه الجوفية بطلب من نينخورساك ربة الأرض كي تتحول ديلمون إلى جنة وارقة الظلال تكسوها النباتات، أو بكلمة واحدة كان السومريون يعتقدون أنّ الآلهة باركت ديلمون ووهبتها المياه العذبة والنباتات والصحة والشباب الخالد، ويبدو أنّ هذا التصور كان له تأثير قوي على فكرة الجنة أو الفردوس في العهد القديم. ولذا كان من المنطقي عندما أنقذ انكي زيوسودرا من الطوفان، ومحه انليل الخلود، أن تجعله الآلهة يعيش في المكان الذي لا يعرف الموت، أي في ديلمون، ولا بدّ أن يكون جلجاميش قد سعى إليها في بحثه عن الخلود متجشماً الأهوال والمشاق، ومتخطياً عقبات مستحيلة، وهناك التقى بالرجل الناجي من الطوفان، وسمع منه أسرار الآلهة، وقصة الطوفان العظيم الذي دمّر البشرية، وهناك أيضاً غاص جلجاميش في أعماق مياه ديلمون كي يحصل زهرة تجديد الحياة أو اكسير الشباب الدائم غير أنّ الحية عدوة الجنس البشري منذ الأزل وتحرمه هذه الفرصة الفريدة.
كانت هذه هي نظرة السومريين بالذات إلى دلمون كما تقول أساطيرهم صراحة، ولكن يبدو أنّ هذه النظرة قد اهتزت قليلاً لدى البابليين وغيرهم من الاقوام السامية التي ورثت ثقافة السومريين وحضارتهم ومنازلهم، ودليلنا على ذلك أنّ الأسطورة السومرية عن انكي ونينخورساك التي تذكر ديلمون كأرض مطهرة نقية لا وجود لها أو لما يماثلها في الأدب الاسطوري السامي اللهم فيما عدا تسرب فكرة الجنة مجردة إلى الأدب العبراني وغيره من الآداب السامية دون أن تحدد هذه الآداب الجنة بديلمون كما كان يفعل السومريين.
وهناك دليل آخر على اهتزاز صورة ديلمون كأرض مقدسة في نظر البابليين يتمثل في عدم ذكرها صراحة باعتبارها المكان الذي يقيم فيه أوتنابيشتيم الذي كافأته الآلهة بالخلود لانقاذ البشرية من الطوفان، فالنص البابلي الذي ورد في ملحمة جلجاميش يكتفي بالقول بأنّ الآلهة كافأت أوتنابيشتيم بالخلود وجعلته يعيش بعيداً هناك عند فم الأنهار ولولا أننا نعلم من شظية سومرية أن جلجاميش سعى إلى ديلمون بالتحديد للقاء زيوسودرا، بطل الطوفان السومري، لظل المكان الذي يقيم فيه نظير أوتنابيشتيم مجهولاً.
ويبدو أنّ تعامل البابليين والآشوريين الكثيف مع ديلمون في مجال التجارة والرحلات البحرية قد قلّل من النظرة المقدسة إلى هذا البلد، فالألفة تقلل من مشاعر التقديس والتكريم بل والاحترام بين البشر، غيلا أنّ هذا التعليل غير كاف لتفسير ديلمون لدى السومريين، وقد كان هؤلاء يتعاملون أيضاً مع ديلمون في شؤون التجارة والملاحة وغير ذلك من جالات الحياة كما هو ثابت من النصوص السومرية، فلماذا لم تقلل هذه العلاقات من نظرتهم التقديسية إلى ديلمون؟ ولماذا اختار السومرون ديلمون بالذات لينظروا إليها هذه النظرة ؟
هذا سؤال لا بدّ أن يثور في ختام بحث عن مكانة دلمون في الأساطير السومرية خاصة إذا علمنا أنّ السومريين قوم غرباء اصلاً عن المنطقة. إنّهم بكل تأكيد لا ينتمون إلى الارومة الجنسية السامية الأساسية في منطقة الشرق الأدنى القديم، ولكن تختلف آراء العلماء اختلافاً بيناً في تحديد اصلهم والمكان الذي جاءوا منه، غير أنّهم بكل تأكيد أيضاً كانوا قوماً متحضرين منذ أول مجيئهم، فقد أحدثوا قفزة حضارية نوعية بالنسبة لنمط الحضارة الذي كان سائداً في منطقة الرافدين قبل حضورهم، ذلك النمط الذي تمثله حضارات ما قبل التاريخ المعروفة في تلك المنطقة.
إنّ هناك أدلة لها قيمتها تفيد أنّ السومريين جاءوا إلى منطقة ما بين النهرين حوالي عام 3300 ق.م. قادمين من دلمون فإنّ أساطيرهم تذكر أنّ جدهم الأكبر جاء من دلمون وانهم نزحوا من هناك بعد طوفان، ومن غير الواضح ما إذا كانوا يعتبرون أنّ ديلمون هي موطنهم الأصلي أم انها كانت محطة على الطريق استقروا فيها مؤقتاً قبل نزوحهم الجديد إلى الشمال. ومن الثابت أنّ البحرين كانت بالفعل محطة مهمة تنزل فيها الاقوام المهاجرة إلى الشمال، فالكلدانيون جاءوا إلى بابل من المنطقة العربية الشرقية على ساحل الخليج في أواخر الألف الثانية قبل الميلاد مروراً بديلمون، ويقول هيردوت أنّ الفينيقيين فعلوا نفس الشيء وان مقابر البحرين الشهيرة فينيقية، فليس ما يمنع منطقياً أن يكون السومريون قبل هؤلاء جميعاً قد استقروا في ديلمون حيث عرفوا السعة والطمأنينة ورغد العيش قبل أن تستجد ظروف أخرى دفعتهم إلى الهجرة إلى بلاد الرافدين.
وهذا الاحتمال يفسر دون شك تلك النظرة المقدسة التي ظلوا ينظرونها إلى دلمون، فالإنسان يحن إلى موطنه الأول وينظر إلى طفولته كعصر ذهبي ولّى ولن يعود وكذلك الأقوام والجماعات في عقلها الباطن الجماعي تنظر إلى عهدها الأول مثوى عظام الآباء والأجداد نظرة يملأها التقديس والاكبار، وتحلم بأيام هذا الموطن باعتبارها عصراً ذهبياً يختلف عن الواقع المعاش.
ومما له دلالة خاصة في هذا الصدد أن بعض الأساطير السومرية تذكر أنّ انكي هو صانع الانسان وأنّه فرض أن تكون ديلمون هي دار الندوة أو مجمع الآلهة لجميع البلاد السومرية. ومن المحتمل أنّ انكي كان في الأصل إلهاً محلياً في ديلمون قبل أن ينتقل إلى سومر، وبعض العلماء يتصورون أنّ اسطورة انكي ونينخورساك التي تفسر أصل النباتات نشأت أصلاً في دلمون ثمّ انتقلت غلى بلاد ما بين النهرين، وهناك شواهد كثيرة على أنّ السومريين والبابليين (تأثراً بهم من بعدهم) كانوا يعتقدون أنّه في فجر الزمن كانت الآلهة تقضي معظم أيامها في دلمون، كلّ ذلك من شأنه أن يعزز الاعتقاد بأن يكون السومريون قد توقفوا في البحرين وأقاموا بها زمناً وهم في طريقهم من موطنهم الاصلي المجهول إلى وادي ارافدين، وربما كان هذا الموطن بالتحديد هو اقليم وادي نهر الأندوس حيث ازدهرت حضارة هارابا وموهانجو دارو، وعلى أي الأحوال كانت الفترة التي قضوها في دلمون كافية لأن تظل حية في ذاكرتهم بمياهها العذبة، وأشجارها الوارقة، كذكرى جنة قديمة أو فردوس مفقود